المغرب يعيش اليوم لحظة مفصلية، حيث تتحول الرياضة من حلم جماعي إلى مرآة تعكس التفاوتات والاختلالات في تدبير المال العام.
مشاريع المونديال 2030، وما رافقها من ملاعب جديدة وتجديد أخرى، تبدو في ظاهرها عنواناً للفخر الوطني، لكنها في العمق تطرح أسئلة حارقة عن الكلفة، عن الأولويات، وعن الأسماء التي تدور في فلك الصفقات العمومية.
ملعب هوكي على الجليد في الرباط، الذي ابتلع 48 مليار سنتيم في بلد لا يتوفر حتى على بطولة محلية للعبة، لم يعد مجرد مشروع رياضي، بل أصبح رمزاً للترف غير المبرر والزبونية التي تتحكم في مسارات المال العام.

الأمر لا يتعلق بصفقة واحدة معزولة، بل بمنظومة كاملة تحكمها نفس القاعدة: الشركات نفسها، الأسماء نفسها، والعلاقات نفسها التي تُعيد إنتاج ذات النمط من توزيع الثروة.
في كل مرة يُفتح فيها ملف من هذا النوع، يخرج المواطن بخلاصة واحدة: أن منطق “الزبون المفضل” هو الذي يحسم في العقود، أكثر مما تحسم فيه المنافسة أو الجودة.
إن الزبونية التي تحكم هذه المشاريع لا تُقاس فقط بعدد الملاعب التي تُشيد، بل بعدد الفرص التي تُهدر على مستشفيات ومدارس وبنيات أساسية كان يمكن أن تغيّر حياة ملايين المغاربة.

الفصل 27 من الدستور المغربي واضح: للمواطنين الحق في الحصول على المعلومة، خصوصاً حين يتعلق الأمر بتدبير المال العام. لكن الحق الدستوري ظل حبراً على ورق، بعدما تحولت حسابات الصناديق الخاصة إلى صناديق سوداء، لا يعرف الرأي العام أين تبدأ ولا أين تنتهي.
إن غياب الشفافية يجعل من كل رقم مُعلن مجرد واجهة، فيما تظل الكلفة الحقيقية وأسماء المستفيدين الحقيقيين في الظل، بعيدة عن الأعين والمحاسبة.

الافتخارات الرسمية بالاستعداد للمونديال لن تغطي على الشرخ الذي يتسع بين الدولة ومواطنيها. فالمغاربة الذين يرون المليارات تُصرف على ملاعب، بينما القرى تعيش العطش والمستشفيات تعاني غياب الأطر والتجهيزات، يطالبون اليوم بأكثر من الشعارات: يطالبون بالافتحاص الشامل.
ليس افتحاصاً تقنياً محدوداً، بل تحقيقاً مستقلاً يتتبع كل درهم من لحظة خروجه من الخزينة إلى وصوله إلى جيب المقاول أو المستفيد.

من يمسك بخيوط هذه المليارات؟ هل هي شركات محلية مرتبطة بدوائر القرار؟ هل هي مكاتب دراسات دولية أُسندت لها الصفقات عبر مساطر غير شفافة؟ أم أنها شبكة مركّبة من المصالح التي تجمع بين المال والسياسة؟ هذه الأسئلة لا يمكن أن تبقى معلّقة، لأن كل تأجيل في الإجابة عنها يراكم الشكوك، ويحوّل المونديال من فرصة ذهبية لبناء الثقة إلى مناسبة تُفضح فيها هشاشة الحوكمة.

الرياضة يمكن أن تكون رافعة للتنمية وصورة حضارية للبلد، لكن حين تتحول إلى واجهة تُخفي خلفها بورصة نفوذ وصناديق غامضة، فإنها تصبح تهديداً لمصداقية الدولة في الداخل والخارج.

لهذا، فإن المطلب الشعبي بالافتحاص ليس نزوة عابرة، بل دفاع عن الدستور، عن الحق في المعلومة، وعن أولوية المواطن أمام كل مشروع تزييني.

المونديال سيبقى محطة مهمة في تاريخ المغرب، لكن قيمته الحقيقية لن تُقاس بعدد الملاعب ولا بعدد الصور الملتقطة تحت الأضواء، بل بمدى القدرة على كشف الحساب وتسمية المستفيدين ومحاسبة المسؤولين. ومن دون ذلك، سيظل السؤال معلقاً: من يمسك فعلاً بخيوط المليارات خلف واجهة الرياضة؟

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version