حين تتحول السياسة إلى بورصة للمعاشات والمناصب… يضيع الوطن بين الولاء والشفافية

منذ نهاية الأسبوع الأخير، عاد الشارع المغربي إلى الواجهة، شباب غاضب خرج يطالب بالصحة والتعليم، لكنه في العمق كان يرفض منظومة سياسية تحوّلت فيها المناصب والمعاشات إلى غنائم، بدل أن تكون مسؤوليات لخدمة الوطن.

السؤال المركزي اليوم هو: كيف تُربط السلطة بالمحاسبة؟ المغرب، وهو يستعد لاحتضان أحداث كبرى مثل كأس إفريقيا للأمم 2025 ومونديال 2030، يقف أمام مفترق حاسم: إما أن يرسخ الشفافية كقاعدة حقيقية، أو أن يستمر في إعادة إنتاج دائرة الامتيازات التي تآكلت شرعيتها.

المغاربة لم يعودوا يقبلون أن تكون الخدمة العمومية مصدراً لمعاشات مريحة مدى الحياة.
الوزير أو البرلماني الذي قضى بضع سنوات في المسؤولية لا يمكن أن يحصل على امتياز يفوق ما يتقاضاه مواطن عمل عقوداً كاملة. مراجعة نظام المعاشات والتعويضات لم تعد مجرد مطلب شعبي، بل شرط لإعادة الثقة.

لكن المشكل أعمق من المعاشات. تضارب المصالح صار سمة مقلقة. أي مسؤول ارتبط اسمه بصفقات أو شركات نالت نصيباً من المشاريع العمومية يجب أن يخضع للتحقيق.
ومع تدفق مليارات الدراهم على مشاريع المونديال، تصبح الأسئلة أكثر إلحاحاً: من يستفيد؟ من يقرر؟ وهل المنافسة كانت مفتوحة فعلاً؟

إلى جانب ذلك، التعيينات في المناصب العليا تحولت إلى “سوق أسبوعية” للغنائم. كل مجلس حكومة يصدر لوائح طويلة، غالباً بمعيار الولاء لا الكفاءة.
الأخطر هو تدوير المناصب: وزير للفلاحة ينتقل إلى وزارة الشباب، ثم يُعيّن سفيراً، في مسار شخصي أقرب إلى سلم الامتيازات منه إلى خدمة عمومية.
هذا المنطق يجب أن ينتهي إذا كان الهدف بناء دولة حديثة.

العواقب واضحة. حين يرى الشباب أن النجاح لا يرتبط بالجدارة بل بالولاء، فإن الثقة في المؤسسات تنهار. النتيجة هي موجات من الهجرة السرية، ولا مبالاة سياسية، واحتجاجات اجتماعية متكررة.

التاريخ يقدم نماذج صارخة. اليابان، كوريا الجنوبية، رواندا… كلها لم تنهض إلا حين ربطت المسؤولية بالمحاسبة، وألغت الامتيازات غير المستحقة، وحولت المناصب إلى تكليف شفاف، لا مكافأة مغلقة. المغرب لا يفتقر إلى الإمكانيات ولا إلى الكفاءات، بل إلى القرار السياسي الحاسم.

الخيار اليوم واضح: إما الاستمرار في منطق “المعاشات المريحة” وتوزيع المناصب كغنائم حزبية، مع ما يعنيه ذلك من فقدان الثقة وتصاعد الغضب.
أو الشروع في عقد جديد، يُلغي الريع، يقطع مع تضارب المصالح، ويعيد الاعتبار للكفاءة باعتبارها المعيار الوحيد للتعيين.

إن تأجيل هذا الإصلاح ليس حياداً، بل مقامرة بشرعية الدولة نفسها. فالكلفة لم تعد مالية أو سياسية فقط، بل أخلاقية أيضاً: حين يفقد المواطن ثقته في مؤسساته، ينهار العقد الاجتماعي بأكمله. الإصلاح لم يعد وعداً، بل ضرورة وجودية.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version