ليست الأزمة المغربية الراهنة نتاجَ غضبٍ اجتماعي عابر، بل حصيلة مسارٍ طويل أُعيدت خلاله صياغة الدولة على مقاس شبكات مصالح ضيقة.
في هذا المسار، ذابت المؤسسات في منطق الغنيمة، وغُيّبت الفكرة الأصلية للعقد الاجتماعي القائم على المساواة والعدالة. ما يعيشه المغرب اليوم يمكن اختزاله في ثلاثية قاتلة:
سلطة بلا مساءلة تعيد إنتاج ذاتها عبر التحكم، لا عبر المشروعية.
ثروة بلا عدالة تتكدّس في أيدي قلة محظوظة، بينما الأغلبية تعيش الهشاشة واللايقين.
وساطة حزبية ونقابية مشلولة انخرطت في لعبة الغنيمة بدل تمثيل المجتمع.
هذه الثلاثية ليست مجرد عرض جانبي للأزمة، بل هي جوهرها. فحين تتحول السياسة إلى تجارة مواقع، والاقتصاد إلى ماكينة تراكم امتيازات، والنقابة إلى جهاز تفاوضي على فتات الامتيازات، تضيع فكرة الدولة ككيان جامع.
الاحتجاجات التي اجتاحت مدناً مغربية خلال الأسابيع الماضية لم تكن مفاجئة بل كانت النتيجة الطبيعية لانسداد الأفق.
شباب يواجهون البطالة في سوق مشلول، مواطنون يطاردون سراب مدرسة جيدة أو مستشفى مجهّز، وطبقات وسطى تنهار تحت ضغط غلاء المعيشة.
في المقابل، تستمر لغة الأرقام الرسمية في رسم لوحة وردية عن “النموذج التنموي الجديد” و”الدولة الاجتماعية”، فيما الواقع اليومي يفضح هشاشة البنية الاقتصادية والاجتماعية.
النقابات، التي كان يُفترض أن تكون خط الدفاع عن الفئات الضعيفة، تحوّلت إلى جزء من اللعبة فقد تخلّت عن دورها التاريخي في تأطير العمال، وارتضت بتسويات فوقية تمنح قياداتها امتيازات وتترك قواعدها مكشوفة أمام قسوة السوق.
إنها أزمة تمثيلية مزدوجة: أحزاب فقدت مشروعها، ونقابات فقدت مصداقيتها. والنتيجة فراغ سياسي يُملؤه الشارع بصوت الغضب.
الأخطر أن هذه البنية لا تُدار بمنطق الإصلاح، بل بمنطق التأجيل: كل أزمة تُحلّ عبر شراء الوقت، وكل احتجاج يُجابَه بمسكنات ظرفية أو بلاغات مكرورة.
لكن التراكم بات ثقيلاً، والجيل الجديد لم يعد يقبل حلولاً تجميلية. إنّ لحظة الحقيقة وصلت: إما إصلاح جذري يعيد للدولة وظيفتها كضامن للحقوق، أو مزيد من الانزلاق نحو قطيعة خطيرة بين المجتمع ومؤسساته.
في المقارنة الدولية، تبدو التجربة المغربية اليوم أقرب إلى نماذج مأزومة في أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية، حيث تحولت الدولة إلى أداة لتوزيع الامتيازات، قبل أن ينفجر الشارع في وجهها.
لكن الفارق أن المغرب يملك فرصة تاريخية لتفادي الانهيار: بتجديد العقد الاجتماعي على أساس المساواة، بربط السلطة بالمحاسبة، وبإحياء الوساطة السياسية والنقابية من جديد.
إن السؤال الجوهري لم يعد: من يقود الحكومة؟ بل: كيف نعيد بناء الدولة نفسها كي لا تذوب نهائياً في غنيمة السلطة؟
“حين تتحول السلطة إلى غنيمة، تفقد الدولة معناها… وعندما يفقد المواطن ثقته، لا يبقى سوى الشارع لكتابة الدستور الحقيقي للأمة.”
