تعيش المملكة المغربية منذ أسابيع حالة سياسية واجتماعية دقيقة، مع تصاعد احتجاجات شبابية في عدد من المدن، سقط خلالها ضحايا وأثارت نقاشاً واسعاً حول جدوى السياسات العمومية.
غير أن ما يحدث لا يمكن اختزاله في مجرد تعبير جيل جديد عن غضب عابر؛ بل هو لحظة دستورية بامتياز، أعادت إلى الواجهة سؤالاً جوهرياً: إلى أي مدى يُطبّق مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة الذي نص عليه دستور 2011؟

وزير الإدماج الاقتصادي والتشغيل، يونس السكوري، حاول خلال الندوة الصحفية اليوم أن يطمئن الرأي العام عبر الدعوة إلى “الحوار” و”الإنصات”.
لكنه، وهو يكرر مفردات التهدئة، لم يقدم ما يكفي من الأجوبة حول الملفات الأكثر حساسية: أين صُرفت المليارات الموجهة للتعليم والصحة والبنيات التحتية؟ وما هي النتائج الملموسة على أرض الواقع؟ فالحوار وحده لا يكفي.
فما يطالب به الشارع اليوم ليس مجرد فتح قنوات للتواصل، بل كشف شامل ودقيق للمال العام: من يستفيد من الصفقات العمومية؟ كيف تُدار الشركات والمكاتب التي حظيت بمشاريع ضخمة في قطاعات حيوية؟ ولماذا ظل أثر هذه المشاريع ضعيفاً مقارنة بحجم الميزانيات المرصودة؟

لا يمكن الحديث عن مصارحة حقيقية دون التطرق إلى الصناديق الخصوصية للخزينة، التي تحوّلت إلى ما يشبه “صناديق سوداء” تُصرف فيها مليارات الدراهم بعيداً عن الرقابة البرلمانية والرأي العام.

هذه الصناديق، التي كان يُفترض أن تكون آلية استثنائية، صارت قاعدة في التدبير المالي، وهو ما يناقض روح الدستور ويقوّض فكرة الدولة الاجتماعية.
والاحتجاجات الأخيرة تضع الدولة أمام امتحان حاسم: هل يمكن تحويل هذه الصناديق إلى آليات شفافة تخضع للمراقبة، أم ستظل محمية بمنطق الاستثناء الدائم؟

التحضيرات لكأس إفريقيا 2025 ومونديال 2030 تمثل بدورها نموذجاً صارخاً لهذا التناقض. ففي حين تُسوّق المشاريع المرتبطة بالحدثين على أنها رافعة اقتصادية وتنموية، يتساءل المواطنون: هل الأولوية لبناء ملاعب عملاقة أم لإصلاح المدارس والمستشفيات؟ وهل خُصصت نفس الجدية والصرامة المالية لقطاعي الصحة والتعليم، أم ظلّا في خانة “النفقات الثانوية”؟

في قلب هذه الأسئلة يوجد وزير المالية، فوزي لقجع، الذي يمسك بخيوط المال العام. الرأي العام ينتظر منه خروجاً واضحاً ومباشراً أمام المواطنين، يقدّم فيه جرداً شفافاً: كم صُرف على كأس إفريقيا والمونديال؟ كم على مشاريع البنيات التحتية في الصحة والتعليم؟ وما نسب الإنجاز الفعلية مقارنة بالالتزامات المعلنة؟ هذا ليس مجرد مطلب شعبي، بل واجب دستوري.

فالدستور المغربي ينص بوضوح على أن المال العام يجب أن يُدار بشفافية، وأن يخضع كل مسؤول للمساءلة. وأي تجاهل لهذا الحق في “الحقيقة المالية” لن يؤدي سوى إلى تعميق فجوة الثقة بين الدولة والمجتمع.

الأحداث الأخيرة كشفت أيضاً أن الدستور لا يمكن أن يبقى مجرد نص مؤسس أو وثيقة رمزية إما أن يتحول إلى عقد اجتماعي حيّ يربط السلطة بالمساءلة ويضمن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، أو سيفقد شرعيته في نظر المواطنين. فالتعليم، الصحة، التشغيل، العدالة الاجتماعية… ليست مطالب ظرفية يطرحها شباب غاضب، بل هي حقوق دستورية تفرض على الحكومة التزاماً قانونياً وأخلاقياً.

المغرب اليوم أمام لحظة مفصلية: إما أن تستغل الحكومة هذه الفرصة لإطلاق مسار جديد من الشفافية، عبر كشف دفاتر الحسابات، وإخضاع الصناديق السوداء للمراقبة، وتقديم جرد علني لكل مشروع ومصاريفه ومخرجاته، أو تكتفي بلغة التهدئة وبلاغات الإنصات، فتتحول الأزمة إلى محطة أخرى في مسلسل فقدان الثقة، بما يحمله ذلك من مخاطر سياسية واجتماعية.

في النهاية، السؤال الذي يفرض نفسه لم يعد: “كيف نهدئ الشارع؟” بل: “هل تملك الدولة الشجاعة السياسية لتفعيل الدستور في عمقه الاجتماعي والمالي؟”.

فالاحتجاجات قد تهدأ، لكن الأسئلة الكبرى حول المال العام والعدالة الاجتماعية لن تختفي، ما لم تجد أجوبة مقنعة تُترجم إلى أفعال ونتائج ملموسة.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version