لم يعد المشهد المغربي يحتمل الكثير من الصمت. فبينما تغلي الشوارع بالاحتجاجات السلمية التي يشارك فيها آلاف المواطنين من مختلف المدن والقرى، ما يزال صوت الغلاء يطغى على تفاصيل الحياة اليومية: أسعار مرتفعة، خدمات صحية متدهورة، منظومة تعليمية فقدت بوصلتها، وشباب يعيش البطالة وفقدان الأفق. إنها صرخة جماعية لشعب أنهكه الانتظار، وتحوّل صبره الطويل إلى غضب حضاري منظم.

المطالب التي تُرفع اليوم ليست شعارات عابرة، بل حقوق دستورية صريحة: الحق في الشغل، في التعليم العمومي الجيد، في الولوج إلى العلاج، وفي العدالة الاجتماعية.
جيل كامل من المغاربة بات يصرخ: “نريد الكرامة قبل أي شيء آخر.” وهذه الصرخة لم تأتِ من فراغ، بل من واقع يُثقل كاهل كل أسرة، ويجعل الحياة اليومية معركة بقاء.

لكن الحكومة، بدل أن تواجه هذا الغضب بجرأة سياسية، تمادت في سياسة الهروب إلى الأمام: لغة أرقام جافة في ندوات رسمية، وبلاغات لا تحمل جواباً مقنعاً، وقرارات غامضة تُقرأ أكثر كاستفزاز لمشاعر المواطنين.
المفارقة الصادمة أن صوراً انتشرت مؤخراً لسياسيين وهم يتبادلون الضحكات والقصص في ذكرى وفاة الملك الراحل الحسن الثاني، بينما الوطن يعيش واحدة من أكثر لحظاته توتراً، قد عمّقت الإحساس بالهوة بين “الطبقة السياسية” و“المجتمع”. كيف لشعب يقف في الشوارع مطالباً بحقه في الكرامة أن يفهم ابتسامات الساسة في لحظة حداد واحتقان؟

الوطن اليوم على صفيح ساخن. الاحتجاجات لم تعد حدثاً عابراً، بل تحوّلت إلى مؤشر سياسي على أزمة ثقة عميقة: ثقة مفقودة في الحكومة، في الوعود المتكررة، وفي مؤسسات عجزت عن أن تكون صلة وصل حقيقية بين الدولة والمجتمع.
حين يفقد الشارع ثقته، يصبح الصمت خطيراً، ويصبح الاستماع إلى صوت الناس واجباً وطنياً لا يحتمل التأجيل.

إن المغاربة، وهم يخرجون في مسيرات ووقفات، لا يطالبون بالمستحيل. إنهم فقط يريدون عدالة في توزيع الثروة، شفافية في تدبير المال العام، وربطاً حقيقياً للمسؤولية بالمحاسبة. يريدون أن تُفتح الملفات الثقيلة، أن يُكشف مصير الصناديق السوداء التي ابتلعت مليارات الدراهم، وأن يعرفوا كيف تُصرف أموال دافعي الضرائب في مشاريع لم تغيّر واقع الصحة ولا التعليم ولا الشغل. إنها أسئلة مشروعة، وأسئلة صعبة، لكنها الطريق الوحيد لبناء الثقة.

اليوم، الشعب يبحث عن الطمأنينة لكنه يعلم أن الطمأنينة لن تأتي عبر الصمت ولا عبر الوعود الفضفاضة.
إنها لن تعود إلا عبر قرارات جريئة تعيد الأمور إلى نصابها: محاسبة فعلية، كشف للحقائق، والتزام سياسي يضع المواطن في قلب كل السياسات.

لقد طال الانتظار. والاحتجاجات المتواصلة ليست سوى جرس إنذار. فإما أن تتحرك المؤسسات لتصغي لصوت الشارع وتستجيب لمطالبه المشروعة، أو أن يستمر الاحتقان بما يحمله من مخاطر على الاستقرار والثقة.
المغاربة، بكل وضوح، يقولون: نريد دولة عادلة، نريد شفافية، نريد إصلاحاً حقيقياً… لأن الأمان لن يعود إلا حين يشعر المواطن أن هذا الوطن له، وأن صوته مسموع.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version