منذ سنوات طويلة، تعيش النقابات المغربية أزمة عميقة: أزمة ثقة، أزمة تمثيلية، وأزمة مشروعية. وإذا كان الاتحاد المغربي للشغل يقدّم نفسه باعتباره “أقدم النقابات” وأكثرها وزناً، فإنّ حضور أمينه العام الميلودي المخارق في برنامج حواري على موقع “العمق” لم يقدّم ما يكسر هذه الصورة المتآكلة، بل عمّق الشكوك في قدرة النقابات على لعب دور فعلي في لحظة تاريخية يغلي فيها الشارع.
المخارق رفض اتهام نقابته بـ”بيع الماتش”، لكنّ لغته بدت وكأنها إعادة تدوير لخطاب خشبي سمعه المغاربة لعقود: سرد مطوّل للإضرابات، تعداد للنضالات القطاعية، وإحالات على معارك “عادت فيها الحكومة إلى جادة الصواب”. غير أنّ هذا التعداد لا يغيّر من حقيقة صادمة: النقابة اليوم لم تعد مرجعاً للعمال، بل كياناً فوقياً يعيش أكثر على رمزية تاريخه من ديناميكية حاضره.
الجرأة الحقيقية ليست في الادعاء بأننا خضنا إضرابات هنا وهناك، بل في مواجهة السؤال الجوهري: لماذا يخرج جيل Z إلى الشارع بلا حاجة إلى النقابات؟ ولماذا صار الشارع أكثر قدرة على التعبئة من أجهزة وُلدت أصلاً لتأطير الغضب الاجتماعي؟ إنّ تبرير المخارق بأن “الشباب مستقلون” ليس اعترافاً بالحرية، بل إقراراً بالعجز عن التأثير.
حين يتحدث المخارق عن الاستقلالية النقابية منذ 1955، يبدو وكأنه يحتمي بتاريخٍ مجيد ليبرّر عجز حاضرٍ مُثقل بالأسئلة. لكنه ينسى أنّ هذا التاريخ نفسه كان مبنياً على مواجهة شرسة مع الحكومات المتعاقبة، بينما النقابات الحالية تحوّلت في نظر كثيرين إلى صوت معزول يفاوض على الفتات بدل أن يفرض السياسات الكبرى.
الأكثر خطورة هو رفضه الانخراط في جدلٍ حول الامتيازات والمعاشات. فبينما يعتبر ذلك “احتراماً لكبار المسؤولين”، يراه الشارع تكريساً لثقافة الصمت التي أبعدت الناس عن العمل النقابي. إنّ من يرفض المحاسبة باسم “الوقار” يقتل جوهر النضال، لأنّ النقابة ليست صكّ غفران، بل عين ناقدة على كل امتياز، مهما كان صاحبه.
وحين يرفض المخارق مشروع القانون التنظيمي للإضراب أو مراجعة مدونة الشغل، فهو لا يفعل أكثر من لعب دور “المعارض الميكانيكي”، الذي يرفع صوته عند الحاجة ثم يعاود الصمت عند أول إشارة للتوافق. هنا يكمن جوهر الأزمة: النقابة صارت ملحقة بمسار الحكومة، لا قاطرة بديلة عنها. وهذا ما يفسّر لماذا أصبحت التنسيقيات المستقلة أكثر جاذبية للأجراء من النقابات التقليدية.
الجرأة ليست في رفع الصوت، بل في طرح السؤال الكبير: هل ما تزال النقابات تمثل المجتمع العمالي فعلاً؟ أم أنها تحولت إلى مؤسسات متقادمة تبرّر وجودها بخطاب متكلّس، بينما تُصنع السياسة الاجتماعية في مكان آخر، على منصات الشارع المفتوح أو عبر وسائط احتجاجية جديدة؟
إنّ خطاب المخارق، بقدر ما بدا دفاعياً، كشف مأزقاً أكبر: النقابات فقدت القدرة على صناعة الأمل، وصارت جزءاً من أزمة الثقة التي تدفع الشباب إلى الانفصال عن السياسة. لقد كان الأجدر بالأمين العام أن يعترف بأن الحركة النقابية لم تعد ما كانت عليه، وأن الحل ليس في استدعاء تاريخ 1955، بل في إعادة التأسيس على قاعدة شفافية ومحاسبة وانخراط فعلي في معارك الناس اليومية.
لن تجيب لغة الإنكار عن سؤال الشرعية النقابية. ولن تُقنع تصريحات عن “الاستقلالية” شباباً يرى بأم عينيه أن النقابات لم تعد إلا صدى باهتاً لنضالات الماضي. اللحظة تفرض خطاباً جديداً، وقيادة جديدة، ونموذجاً جديداً. فالمستقبل لا يُصنع بلغة الخشب، ولا بذكريات الأمس، بل بقدرة حقيقية على إعادة بناء الثقة مع المجتمع.
