في لحظة سياسية واجتماعية مشتعلة، حيث يهتف الشباب في الشوارع بشعار “لا حصانة أمام الدستور”، يغيب الصوت الذي اعتاد أن يقدّم نفسه مايسترو المالية المغربية، العرّاب الذي يدير الصناديق ويهندس الموازنات.
غياب يثير الريبة أكثر مما يزرع الطمأنينة، خصوصاً وأن البلاد على موعد مع تحديات كبرى، في مقدمتها تنظيم كأس إفريقيا للأمم 2025 ومشاريع مرتبطة بمونديال 2030، وهي رهانات مالية وسياسية في آن.

هذا الصمت لا يمكن تفسيره كحياد إداري أو مجرد احترام لتقاليد البروتوكول.
إنه أقرب إلى انسحاب تكتيكي من مواجهة الأسئلة الحارقة: أين صرفت المليارات؟ من المستفيد من المشاريع الكبرى؟ وهل الأولوية اليوم لطمأنة الاتحاد الإفريقي والفيفا، أم لطمأنة شباب مغربي فقد الثقة في الخطاب الرسمي؟

لقد رسم مايسترو المالية، على مدى سنوات، صورة تقنوقراط بارع في الحسابات، قادر على تحويل الأزمات إلى جداول، والاحتجاجات إلى نسب نمو مرقمنة.
لكن حين تحوّلت الأرقام إلى قنابل اجتماعية مؤجلة، انفجرت في وجه الدولة والمجتمع معاً.
انفجار جيل كامل لم يجد في سياسات التشغيل، التعليم، والصحة سوى وعود مؤجلة ومشاريع تلتهم الميزانيات دون أن تغيّر واقعه.

سياسة الأرقام أثبتت محدوديتها فهي قد تُرضي المؤسسات المالية الدولية، لكنها لا تُقنع شاباً يبيت في طابور أمام مستشفى عمومي، أو آخر يبدّد سنوات عمره في بطالة مقنّعة.
لقد تحوّل الشباب المغربي إلى طرف مباشر في المعادلة، يكتب الدستور في الشارع، ويطالب بفتح الصناديق السوداء المرتبطة بالصحة والتعليم والرياضة، وبالكشف عن كل درهم صُرف باسم التنمية.

ومع اقتراب كأس إفريقيا، السؤال الأكثر إلحاحاً لم يعد: كيف سننظم التظاهرة؟ بل: بأي ثمن؟ هل يمكن إقناع الشارع بأن الملايير المرصودة للبنية التحتية الرياضية لن تكون على حساب المدرسة العمومية والمستشفى العمومي؟ أم أننا أمام مشهد يتكرر: مشاريع ضخمة للتسويق الخارجي، وصمت ثقيل أمام أزمة اجتماعية داخلية؟

إن اختفاء العرّاب في هذه اللحظة ليس مجرد غياب شخص، بل هو رمز لعجز بنيوي في السياسة المغربية: حين تُدار البلاد بالأرقام بدل الرؤى، وحين يُختزل المستقبل في دفاتر المحاسبة، تكون النتيجة حتمية: انفجار اجتماعي يضع الجميع أمام سؤال المسؤولية والمحاسبة.
وبينما ينتظر العالم صافرة انطلاق كأس إفريقيا، يبقى الشارع المغربي هو الحكم الأخير.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version