حين يصمت زعيم النقابة طويلاً، لا يعود لكلامه المتأخر سوى طعم المزايدة.
هكذا بدا الميلودي المخارق، الأمين العام للاتحاد المغربي للشغل، خلال ظهوره الأخير على برنامج نبض العمق.
فقد اكتشف فجأة أن صناديق التقاعد ليست على شفا الإفلاس كما تروج الحكومة، وإنما تُستنزف في مشاريع “باذخة” من فنادق فخمة وملاعب غولف ومستشفيات جامعية بمليارات الدراهم. وقالها بوضوح: “أزمة الإفلاس مجرد وهم وتهويل، والحكومة تريد تمرير إصلاح قاسٍ على حساب الموظفين.”

غير أن السؤال يفرض نفسه: لماذا لم ينطق بهذه الحقيقة قبل أن تنفجر شوارع المغرب بالاحتجاجات؟ وأين كان صوته حين كانت تقارير المجلس الأعلى للحسابات، والصحافة المستقلة، تحذر منذ سنوات من غياب الحكامة والشفافية في تدبير هذه الصناديق؟

المخارق رفض “الثالوث الملعون” الذي تقترحه الحكومة: رفع سن التقاعد إلى 65 سنة، زيادة نسبة الاقتطاعات، وتخفيض المعاشات بنسبة 20%.
وصفها بصفقة مجحفة ضد الأجراء: “يعملون أكثر، يساهمون أكثر، ليتقاضوا أقل.”
كلام صائب في جوهره، لكنه لا يعفي النقابات من مسؤولية تاريخية، فقد جلست لعقود في مجالس الحوار الاجتماعي دون أن تطالب يوماً بتدقيق مستقل في استثمارات الصناديق، أو بكشف لوائح المستفيدين من صفقات عقارية وسياحية ابتلعت مدخرات المنخرطين.

مقارنة بسيطة تكشف حجم الفضيحة. في فرنسا، حين طرحت الحكومة رفع سن التقاعد بسنتين فقط، نزل ملايين المواطنين إلى الشارع، ووجدت النقابات نفسها في قلب المعركة منذ اللحظة الأولى. في كندا، تُدار صناديق التقاعد عبر مجالس مستقلة تخضع لتقارير مالية سنوية تُنشر للعموم، ويُعتبر غياب الشفافية فضيحة سياسية قد تُسقط حكومات.
أما في المغرب، فقد تحولت الصناديق إلى “خزائن سوداء” تستثمر في ملاعب غولف وفنادق فخمة، دون استشارة أو رقابة، بينما النقابات اكتفت بالصمت، حتى انفجر الغضب الشعبي.

الخطير اليوم أن النقاش يُختزل في مواجهة سطحية بين حكومة تبحث عن التوازن المالي عبر جيوب الموظفين، ونقابة تصرخ متأخرة عن “الوهم والتهويل”، بينما يضيع النقاش الجوهري: من حوّل صناديق التقاعد إلى مصدر للريع؟ ومن يحاسب على ستة مليارات ونصف دُفعت في مستشفيات جامعية بلا شفافية ولا تقييم للجدوى الاجتماعية؟

لقد صدق المخارق حين قال إن المشكل الحقيقي ليس في ديمومة الصناديق بل في الحكامة، لكن صدقه يأتي متأخراً. متأخراً لدرجة يُخشى معها أن يتحول خطابه إلى ورقة سياسية، بدل أن يكون بداية لمسار إصلاح حقيقي.
والنتيجة واحدة: الأجير المغربي يظل الحلقة الأضعف، يدفع الثمن مرتين؛ مرة حين تُهدر أمواله في مشاريع بذخية، ومرة حين يُفرض عليه إصلاح قاسٍ ليعوّض أخطاء لم يرتكبها.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version