في زمنٍ صار فيه الشبابُ يعرف قبل أن يُقال له، يصبح السؤال الجوهري: من يحتاج التوعية فعلاً؟ الجيل الجديد أم من ما زال يراه قاصراً؟

في أولى حلقات الموسم الجديد من برنامج “مع يوسف بلهيسي”، اختار عبد الرحيم المنار اسليمي، أستاذ الدراسات السياسية والدولية ورئيس المركز الأطلسي للدراسات الاستراتيجية، أن يضع جيل “Z” تحت المجهر الأمني أكثر مما يضعه في قلب التحليل الاجتماعي.
بدا خطابه، في ظاهره، أكاديمياً متوازناً، لكنه في العمق يكشف عن ازدواجية فكرية تُشبه ازدواجية الدولة نفسها في التعامل مع شبابها: الاعتراف بوعيهم، والخوف منه في الوقت ذاته.

يقول المنار إن هذا الجيل “متصل رقمياً بنسبة مائة في المائة، ويمتلك وعياً سياسياً واجتماعياً متقدماً وميولاً نقدية واضحة”. إلى هنا يبدو الخطاب منفتحاً ومتفائلاً.
لكن سرعان ما يتحول الوصف إلى نغمة تحذيرية حين يضيف أن الشباب “أكثر عرضة للاختراق والتحريض من جهات داخلية وخارجية”. كيف يمكن لجيلٍ “واعٍ نقدياً” أن يكون في الوقت نفسه “قاصراً سياسياً”؟
إنه التناقض الأول الذي يعكس خوف النخبة التقليدية من وعيٍ لا يمكن ضبطه ولا توجيهه من فوق.

يقرّ المنار بأن مطالب جيل Z مشروعة: صحة، تعليم، عدالة اجتماعية، ومحاربة الفساد.
غير أنه يعود ليقول إن بعض الجهات تحاول “توظيف هذه المطالب لضرب استقرار البلاد”.
هنا يظهر التناقض الثاني: كيف يمكن أن تكون المطالب الوطنية خطراً على الوطن؟ في هذه اللحظة يتحول الخطاب الأكاديمي إلى ما يشبه بلاغاً أمنياً بصيغة ناعمة، يزرع الشك في كل ما لا يخضع للرقابة الرسمية.

ينتقد المنار غياب التواصل الحكومي مع الشباب، لكنه يدعو في الوقت ذاته إلى “متابعة الظواهر الرقمية وتوعية الجيل بالمخاطر”.
أي أن الحل، في نظره، ليس فتح الحوار، بل إغلاق النوافذ باسم “التوعية”. هكذا يتحول الوعي من مساحةٍ للحرية إلى موضوعٍ للمراقبة، وكأن الدولة تقول للشباب: “نراك، لكن لا نسمعك”.

ويقول المنار إن جيل Z “يفتقر إلى قيادات يمكن الحوار معها”، ويقترح “تطوير قيادات وطنية وشبابية” قادرة على تمثيله. غير أن السؤال الأعمق هو: من سيختار هذه القيادات؟ الشباب أنفسهم أم نفس الآلية التي اختارت النخب التي أوصلت البلاد إلى هذه الأزمة؟ في الواقع، ما يراه المنار فراغاً في القيادة، يراه الشباب تحرراً من الوصاية الحزبية والنقابية التي فقدت شرعيتها.

ربما لم ينتبه المنار إلى أن أخطر ما في المشهد ليس “التحريض الخارجي”، بل القطيعة الداخلية بين من يملك القرار ومن يعيش الواقع. جيل Z لا يحتاج إلى “حماية فكرية”، بل إلى ثقة سياسية. إنه جيل لا يبحث عن زعيمٍ يقوده، بل عن دولةٍ لا تخاف من وعيه، ولا تُخضع طموحه لتقارير “المخاطر”.

المنار قال الكثير، لكنه قاله بلغةٍ مزدوجة: لغة تُشيد بوعي الشباب وتخاف منه، ولغة تُنادي بالحوار وتتهيّأ لمراقبته.
وربما لم يدرك أن جيل Z لا ينتظر من يُرشده، بل من يفهمه، ولا يحتاج إلى قيادةٍ جديدة، بل إلى وعيٍ رسميٍ جديدٍ لا يرى في الأسئلة تهديداً، بل بداية الإجابة.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version