لم يكن عزيز أخنوش، آنذاك، وزيراً أو مسؤولاً تنفيذياً رفيع المستوى.
كان رئيس جهةٍ في الجنوب المغربي، ورجل أعمالٍ صاعداً في عالم السياسة، حين وجد نفسه في قلب واحدة من أكثر اللحظات الاجتماعية توتراً في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
في صيف عام 2008، كانت سيدي إفني تغلي. شبابٌ عاطلون عن العمل، احتجاجاتٌ متصاعدة، ومدينةٌ صغيرة تطالب بنصيبها من ثروات البحر.
في تلك اللحظة، قرّرت الدولة أن تُوفد إلى المدينة وجهاً اقتصادياً أكثر من كونه سياسياً: عزيز أخنوش.

حين خاطب السكان يومها، قال جملة ستظل عالقة في ذاكرة تلك المرحلة: “مطالبكم وصلت إلى السلطات العليا في البلاد، والاستجابة قريبة.”
لم يكن تصريحاً حكومياً بقدر ما كان رسالة تهدئة لم يُقدّم الرجل التزامات واضحة، ولم يحمل معه حلولاً ملموسة، بل اكتفى بلغة رمزية تمزج بين الطمأنة والغموض.
ومع ذلك، كان وقعها كافياً لتخفيف التوتر مؤقتاً. لقد أدّى أخنوش الدور المطلوب منه بدقة: تهدئة الشارع دون معالجة الجذور.
تلك اللحظة، في جوهرها، لم تكن مجرد تدخلٍ محلي لاحتواء أزمة اجتماعية؛ بل كانت تجريباً مبكّراً لأسلوبٍ جديد في الحكم، يقوم على إدارة الغضب الشعبي عبر شخصياتٍ اقتصادية مقربة من السلطة، لا عبر مؤسساتها الدستورية.

النصوص الصحفية التي وثّقت تلك الزيارة أشارت بوضوح إلى أن أخنوش دعا قادة الاحتجاج إلى الاجتماع به شخصياً، متجاوزاً في ذلك السلطات المحلية.
كان يتصرّف بصفته ممثلاً غير رسمي للدولة، لا رئيس جهةٍ فحسب. هذا التجاوز الرمزي، وإن بدا حينها إجراءً عملياً لإنقاذ الموقف، كشف عن تحولٍ أعمق في بنية السلطة المغربية: صعود الوجوه الاقتصادية الموثوقة كبديلٍ عن السياسيين والمؤسسات الوسيطة.
لقد كان ذلك التمرين الأول في “الأخنوشية”، أي في الجمع بين لغة المصالحة وممارسة النفوذ من خارج المساطر السياسية التقليدية.

بعد سنواتٍ قليلة، سيتحوّل هذا “الوسيط الهادئ” إلى وزيرٍ، ثم إلى رئيس حكومةٍ يملك الأغلبية البرلمانية. غير أن أسلوبه ظلّ هو ذاته: خطابٌ تصالحي هادئ، يَعِد دون أن يُلزم، ويتحدث عن القرب من المواطن أكثر مما يمسّ جوهر المطالب الاجتماعية.

وهكذا تكرّس في التجربة المغربية نموذج جديد من الحكم: التقنوقراط الذين يديرون السياسة بلغة الاقتصاد، ويتعاملون مع الأزمات بمنطق إدارة المخاطر أكثر من منطق الإصلاح.

ما حدث في سيدي إفني لم يكن حادثاً عرضياً، بل محطةً مفصلية في علاقة الدولة بالمجتمع.
فقد كشفت الواقعة عن اتجاهٍ متصاعد نحو تفكيك الأدوار المؤسسية لصالح الفاعلين الفرديين المقربين من دوائر القرار.
منذ تلك اللحظة، أصبحت السياسة في المغرب أكثر شخصانية وأقل مؤسساتية، وأصبح التكنوقراط هم الواجهة المفضلة في لحظات التوتر، بينما أُقصيت الأحزاب والنقابات من دائرة الوساطة.

لقد كانت زيارة أخنوش إلى سيدي إفني أكثر من حدثٍ عابر. كانت نقطة تحوّل رمزية في مسار الحكم بالمغرب حين اختارت الدولة أن تُرسل رجل الأعمال بدل الوزير، وأن تُعوّل على الهدوء بدل الإصلاح.
واليوم، بعد مرور أكثر من عقدٍ ونصف، يمكن قراءة تلك الواقعة كمشهدٍ تأسيسي لما سيُعرف لاحقاً بـ“نظام التهدئة”، حيث تُدار الأزمات الاجتماعية بالوعود لا بالسياسات، وتُدار الثروة بنفس الأسلوب الذي تُدار به السلطة: بثقةٍ عالية، وبمساءلةٍ منخفضة، وبصمتٍ محسوب يفضّل السكون على المواجهة.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version