لم يكن ما جرى على شاشات التلفزيون المغربي صدفةً مهنية ولا صحوةَ ضميرٍ متأخرة، بل لحظة انكشافٍ حادّة لحقيقةٍ ظلّت تُدار في الظلّ: إعلامٌ عموميٌّ يعيش على المال العام، لكنه فقد صلته بالمجتمع الذي يموله.
لسنواتٍ طويلة، ظلّ المشاهد المغربي أسيرَ محتوى سطحيٍّ مفرغٍ من المعنى، ترفٍ بصريٍّ يغطي خواءً فكرياً، وبرامجَ تروّج للتفاهة كترفيهٍ عمومي، حتى بات الضحك بديلاً عن الحوار، والموسيقى تعويضاً عن النقاش، والتهريج غطاءً للعجز المهني.
كان التلفزيون، في زمنٍ يُفترض فيه أن يكون عين المجتمع وضميره، مجرد أداةٍ لتجميل السلطة وتلميع الخطاب الرسمي.
لم يكن يطرح الأسئلة بل يتجنبها، لم يكن يواكب التحولات بل يجمّدها في قوالبٍ محفوظة، ولم يكن يخاطب المواطن بقدر ما يخاطب صورته الافتراضية في تقارير الإنجاز.
وبينما كان الشارع يتغير، ظلّت الشاشة تراوح مكانها، حتى أصبحت أكثر ما تُجيده هو صناعة الفراغ بلغةٍ مزخرفة.
لكنّ المشهد تبدّل فجأة. مع تصاعد موجة الاحتجاجات الشبابية، اكتشف الإعلام العمومي أنه يواجه جمهوراً جديداً لا يشبه جمهوره القديم: جيلاً رقمياً لا ينتظر النشرة ليتلقى الخبر، بل يصنع الخبر بنفسه، وينقله من الشارع مباشرةً إلى العالم.
جيلٌ يملك هاتفاً بدل الميكروفون، وساحةً بدل الأستوديو، وصوتاً لا يمكن حجبه بالبلاغات الرسمية.
في لحظةٍ واحدة، سقطت الهيبة الرمزية للشاشة، وظهر أن التلفزيون لم يكن يمارس الخدمة العمومية، بل الوصاية البصرية.
وجدت القنوات نفسها في مأزقٍ مزدوج: بين ضرورة الانفتاح المفاجئ وبين خوفٍ قديم من تجاوز الخطوط الحمراء.
وبينما كان المذيع يحاول التحدث بلغة جديدة، ظلّ الخط التحريري أسيراً لذهنية قديمة ترى في الشارع تهديداً لا مصدراً للمعلومة.
وحتى عندما حاول الإعلام الرسمي التفاعل مع غضب الشارع، بدا متردداً، متأخراً، مرتبكاً، كمن يخشى أن يدرجه المحتجون في لائحة المطالب التي يرفعونها ضد الحكومة.
هذا الخوف ليس مهنياً فقط، بل وجودي، فالتلفزيون المغربي، الذي عاش عقوداً بوصفه صوت الدولة، لم يتعلّم بعد كيف يكون صوت المجتمع.
إذ إنّ الأزمات التي يمرّ بها ليست تقنية ولا مالية، بل أخلاقية ومفاهيمية.
كيف يمكن لمؤسسةٍ تموّلها الضرائب أن تظلّ صمّاء أمام نبض من يمولها؟ وكيف يمكن لإعلامٍ يرفع شعار القرب من المواطن أن يخاف من الكلمة الحرة أكثر مما يخاف من الخطأ؟
لقد صار واضحاً أن المعضلة ليست في ضعف الإنتاج، بل في منطق التسيير.
الأموال تُصرف بسخاء، لكن على برامج تُعيد إنتاج الجمود نفسه. الوجوه نفسها تتنقّل بين القنوات، بنفس الخطاب ونفس الإيقاع، دون أن تكلّف نفسها عناء مراجعة الذات أو مساءلة الواقع.
إنها دائرة مغلقة من الرداءة المُمأسسة، يختلط فيها المال بالولاء، والإشهار بالتموقع، و“الخدمة العمومية” بالخدمة السياسية.
ومع صعود الوعي الشعبي، لم يعد المشاهد في حاجة إلى مذيعٍ يشرح له، بل إلى إعلامٍ يحترمه.
فجيل Z الذي يملأ الساحات اليوم، ليس جيلاً غاضباً فقط، بل جيلاً فاهمًا ومتصلاً، يقرأ ما بين السطور ويفضح ما وراء الصورة. لذلك، حين تبث القنوات الرسمية موادَّها المعتادة، يشعر الناس أن التلفزيون يعيش في زمنٍ آخر، وأنه يلاحق وعيه المفقود بلا بوصلة.
في النهاية، ما يعيشه الإعلام المغربي اليوم ليس مجرد أزمة مهنية، بل اختبارٌ لضميره العام.
إما أن يعيد تعريف دوره كخدمةٍ للمجتمع لا كذراعٍ للسلطة، أو يستمر في الانحدار من التفاهة إلى الارتباك.
فالزمن تغيّر، والجمهور تغيّر، ولم تعد الأضواء كافيةً لإخفاء الظلال.
لقد فقدت الصورة امتيازها القديم، ولم يعد الميكروفون رمزاً للقوة، بل للحساب.
ومن لا يقول الحقيقة اليوم، سيجد نفسه غداً خارج البثّ، لأن التاريخ لا يُعاد تسجيله، بل يُبثّ مباشرةً من الشارع.
