تُعيد الدولة المغربية اليوم صياغة خطابها المالي بلغةٍ توحي بالإصلاح، لكنها تخفي في جوهرها مشروعًا أكثر قسوة: تقشفٌ أنيق يُسوَّق على أنه عقلنة.
فما يُقدَّم على أنه “ترشيد للنفقات” و“عقلنة للموارد” لا يعكس فلسفة تدبيرٍ جديدة بقدر ما يُعبّر عن مرحلةٍ من الانكماش المالي تُدار بعباراتٍ منمقة وتبريراتٍ تقنية.

الدورية الأخيرة الصادرة عن وزارة الداخلية، والموجّهة إلى الولاة والعمال، ليست مجرد توجيهٍ إداري؛ إنها إعلانٌ عن تحوّلٍ هيكلي في العلاقة بين المركز والجماعات الترابية.
فالدولة تُعيد توزيع أعباء الأزمة لا مواردها، وتنقل الضغط المالي من الخزينة العامة إلى الميزانيات المحلية، مطالبةً الجماعات بتدبير العجز كما لو كان مشروع تنمية، وبإدارة الفقر كما لو كان قدرًا محاسبيًا.

وراء الحديث عن “ترشيد نفقات التسيير” و”ضبط المداخيل الواقعية” تختبئ حقيقةٌ بسيطة: ميزانية الدولة بلغت حد الإنهاك، ولم يعد في الإمكان مواصلة الإنفاق بالوتيرة السابقة دون المساس بجوهر الخدمات الاجتماعية.
لذلك، يُطلب من الجماعات أن تكتفي بـ“الضروريات فقط”، وأن تُبرّر كل درهمٍ يُصرف على صيانةٍ أو مهرجان، في ما يشبه إعادة تأهيلٍ ناعم للفقر المحلي تحت عنوان “الفعالية”.

التحول أخطر من أن يُقاس بالأرقام؛ هو انتقال في الفلسفة ذاتها:
من منطق الاستثمار المولّد للتنمية إلى منطق المحافظة على التوازن المالي بأي ثمن، من خطابٍ حول العدالة الاجتماعية إلى خطابٍ حول الواقعية الاقتصادية،
ومن حلم “الجهوية المتقدمة” إلى واقع “اللامركزية المقيّدة” التي تتحرك تحت سقف المراقبة المالية الصارمة.

الوزارة تتحدث عن “ضبط دعم الجمعيات” و“التحكم في نفقات الماء والكهرباء”، لكنها لا تتحدث عن الإصلاح البنيوي لمنظومة التمويل الترابي، ولا عن تقليص الفوارق بين الجهات التي تغذي مركزية القرار والموارد.
تطالب الجماعات بسداد الأحكام القضائية المتراكمة، دون أن تُسائل من راكم الأخطاء والصفقات التي أرهقت المال العام.
تُحاكم النتائج، وتتجاهل الأسباب.

إن ما تسميه الحكومة “ترشيدًا” ليس سوى اعترافٍ مؤدّبٍ بالعجز المالي، وما تصفه بـ“الفعالية” ليس سوى ستارٍ لتقليص الاستثمار العمومي وإعادة رسم خريطة الأولويات على مقاس القدرة لا الحاجة.
بهذا المعنى، تتحول الحكامة المالية إلى لغة تجميلٍ اقتصادي، تكتب التقشف بلغة الإصلاح، وتُعيد تعريف التنمية بوصفها فنّ تدبير الندرة لا مشروع بناء الازدهار.

لقد أصبحت “عقلنة الفقر” مشروعًا سياسيًا كاملاً، يبرّر التقليص باسم الكفاءة، ويؤطر التراجع في قوالب الأخلاق الإدارية، ويُقنع المواطن أن التواضع المالي شكلٌ من أشكال المسؤولية.
وحين تصبح لغة الإصلاح غطاءً للعجز، يتحول الترشيد إلى عقيدة حكم، وتتحول الدولة من صانعةٍ للثروة إلى مديرةٍ للفقر… بأناقةٍ فائقة.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version