الغضب المغربي لم يَعُد يحتاج إلى شارعٍ أو شعار، بل صار يولد من داخل المؤسسات نفسها.
هناك حيث تتقاطع السلطة بالضمير، وتتحول المهنة إلى عبءٍ أخلاقي أكثر منها وظيفة.
من مستشفى بأكادير خرج صوتٌ طبيٌّ متمرّد يهدّد وزير الصحة بمهلةٍ لا تتجاوز 72 ساعة لإعادة الاعتبار لزملائه الموقوفين، متوعدًا بكشف ما سماه “مسرحية الفساد الدائرة في الكواليس”.
كلمات قليلة لكنها ثقيلة، كسرت جدار الصمت وفتحت باب الأسئلة التي تخشاها الدولة.
غير أن السؤال الأكبر يظل معلقًا: لماذا لم يتكلم هذا الطبيب حين كان الفساد يعبر أمامه بطمأنينة؟

التهديد في ذاته ليس جريمة، لكنه اعتراف متأخر.
أن يقول الطبيب اليوم إن “هناك فسادًا”، فذلك يعني أنه رآه وسكت. صمته الطويل لم يكن حيادًا، بل مشاركة غير معلنة في الجريمة.
لأن الضمير المهني لا يُقاس بمدى الغضب بعد العقوبة، بل بمدى الشجاعة قبلها.
فأن تتكلم بعد أن يُظلم زملاؤك هو دفاع عن الذات، أما أن تتكلم قبل أن يُظلم أحد، فذلك دفاع عن الوطن.

وفي الوقت نفسه خرج مؤثّر مغربي في بث مباشر يعلن امتلاكه “وثائق خطيرة” يمكن أن “تزجّ بمسؤولين كبار في السجن”.
لا علاقة له بالمستشفى ولا بالقطاع الصحي، لكنه التقط اللحظة التي كانت فيها البلاد تغلي.
فبدت خرجته امتدادًا للغضب نفسه: غضب مناخٍ عام لم يَعُد يحتمل الكتمان، حيث يتكلم الشارع والمهني والمجهول بنفس النبرة، لأن الثقة انهارت في كل لغة رسمية.

القصة لم تعد بين طبيبٍ ومؤثر، بل بين الحقيقة والزمن.
بين من تكلم متأخرًا ومن تكلم بلا دليل، وبين وطنٍ يبحث عن الصدق في زمن الضجيج.
كلاهما صورة لبلدٍ يعرف الخلل ويسكت عنه حتى ينفجر، ثم يهرع الجميع إلى تبرير الصراخ.
إنها ثقافةٌ مزمنة: معرفة بلا إفصاح، وضميرٌ يؤجل قوله إلى أن يُصاب بالأذى.

الفساد لا يعيش بالأرقام وحدها، بل بالصمت.
وحين تتحول المعلومة إلى سر، والسكوت إلى فضيلة، فذلك يعني أن المؤسسات فقدت جوهرها الأخلاقي.
اليوم، لم يَعُد السؤال من الفاسد، بل من الذي عرف وسكت لأن الساكت، في زمنٍ كهذا، لا يقل جرمًا عن الفاعل.

البلد يعيش لحظة انتقال صعبة، حيث صارت الكلمة سلاحًا، والفضح شكلًا جديدًا من المقاومة المدنية.
لا الطبيب ولا المؤثّر وحدهما من يتكلمان، بل وطنٌ بأكمله بدأ يواجه نفسه.
والمؤلم أن الحقيقة لا تظهر بالجرأة، بل بالتأخر والطبيب الذي نطق بعد فوات الأوان يذكّر الجميع بأن أخطر أشكال الفساد ليست في المكاتب، بل في الضمائر التي رأت… وسكتت.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version