تُقاس نزاهة الدول لا بما تُشيّده من البنايات، بل بما تُشيّده من ثقة. وحين تتصدّع تلك الثقة داخل مشروعٍ يحمل التوقيع الملكي، فإن السؤال لا يعود عن السوق ذاته، بل عن المسافة بين النية العليا والتنفيذ الأدنى.

في مدينة سلا، يقف مشروع سوق الصالحين كنموذجٍ لهذا التناقض المؤلم: مبادرة ملكية رائدة في ظاهرها، تروي حكاية حلمٍ حضريٍّ راقٍ أراد أن يُعيد للتجارة الصغيرة كرامتها داخل نسيجٍ منظم، فإذا بها تنقلب إلى مرآةٍ تعكس أزمة عميقة في تدبير الشأن المحلي، بعدما فاحت من بين جدرانها رائحة الإقصاء والزبونية والمحسوبية.

عشرات من ذوي الحقوق، ممن ورثوا ذاكرة السوق القديم المعروف بـ“سوق الكلب”، وجدوا أنفسهم خارج لوائح المستفيدين.

خرجوا إلى الشوارع وإلى أبواب العدالة حاملين وثائقهم القديمة وصور آبائهم، يطالبون بإنصافٍ تأخر طويلًا. أحدهم يلخّص المرارة قائلًا:

“كنا نحلم بفضاءٍ منظمٍ يحفظ كرامتنا، لكننا وجدنا أنفسنا خارج اللائحة، بينما حصل غرباء على المحلات… وبعضهم من أصحاب النفوذ.”

تتقاطع الشهادات عند استنتاجٍ واحد: العدالة لم تكن المعيار. فقد استفاد وسطاء وأقارب موظفين، بينما أُقصي من يملكون وثائق تثبت أحقيتهم القانونية.

المفارقة أنّ المشروع الذي أُعلن عنه سنة 2017 بميزانيةٍ تجاوزت 361 مليون درهم وعلى مساحة 23 هكتارًا، كان يُفترض أن يكون نموذجًا للتأهيل الحضري والإنصاف الاجتماعي.

لكنه اليوم تحوّل إلى ملف مفتوح على أسئلة الشفافية والمحاسبة: أين ذهبت روح المشروع؟ ومن حوّل فلسفة الإصلاح إلى ممارسةٍ انتقائية تُكافئ القرب وتُعاقب الاستحقاق؟

يطالب المتضررون اليوم بنشر اللوائح الكاملة للمستفيدين وفتح تحقيق شامل من طرف المفتشية العامة للإدارة الترابية، لأن ربط المسؤولية بالمحاسبة كما يقولون لا يمكن أن يبقى شعارًا جميلاً يُرفع في الخطب ويُدفن في الممارسة.

ليست قضية سوق الصالحين شأنًا محليًا عابرًا، بل مرآة وطنية تعكس كيف يمكن للبيروقراطية أن تُفرغ المشاريع الكبرى من مضمونها الاجتماعي.

فحين تصبح الإدارة أقوى من الفكرة، والوساطة أسرع من العدالة، يتحوّل العمران إلى واجهةٍ باذخة تُخفي شقوقًا أخلاقية، ويغدو الإصلاح خطابًا جميلًا بلا أثرٍ في الحياة اليومية للمواطنين.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version