لم يعد ملف الجالية المغربية المقيمة بالخارج شأناً إداريًا عابرًا، بل تحوّل إلى مرآةٍ كاشفةٍ لطبيعة العلاقة بين الدولة وأبنائها المنتشرين في أصقاع الأرض.
في قلب هذه المرآة يقف عبد الله بوصوف، الأمين العام لمجلس الجالية المغربية، محاطًا بجدلٍ قديمٍ تجددت ظلاله، وملفٍّ كان يومًا حديث الرأي العام ثم أُغلق بهدوء، كأنّ شيئًا لم يكن.

أُنشئ مجلس الجالية المغربية المقيمة بالخارج ليكون همزة وصلٍ بين الوطن وأبنائه في المهجر، وليقدّم المشورة للدولة في قضايا الهجرة والهوية والمواطنة.
غير أن المسافة بين الهدف والممارسة اتّسعت بمرور الوقت، حتى صارت المؤسسة التي وُلدت لتعبّر عن الجالية متهمةً اليوم بأنها بعيدةٌ عنها أكثر من أي وقتٍ مضى.

فمنذ سنواتٍ، طُرح سؤال الجدوى، ثم خيّم الصمت.
ملفاتٌ كانت تُثار بشغفٍ في الإعلام والمنتديات، تراجعت إلى الظل دون أن يُعرف مصيرها أو حصيلتها، كأنّ الضوء الذي سُلّط يومًا على المجلس كان مجرّد برقٍ في ليلٍ إداريٍّ طويل.
ومنذ ذلك الحين، استمر المجلس في مساره، دون أن يقدّم للرأي العام تفسيرًا ولا حصيلةً تُقنع الجالية بأن المؤسسة التي تحمل اسمها ما زالت تنبض باسمها.

بعيدًا عن الأرقام والموازنات، يعيش مئات الآلاف من المغاربة في المهجر شعورًا متزايدًا بالتهميش.
فهم لا يرون في مجلس الجالية صوتهم الحقيقي، ولا يلمسون أثره في قضاياهم اليومية، من الاستثمار في الوطن، إلى صعوبات الخدمات الإدارية، إلى ضعف التمثيلية السياسية.
أكثر ما يؤلم الجالية ليس غياب الدعم فقط، بل غياب الإحساس بأن هناك من يصغي إليها حقًا.
فحين تتحوّل المؤسسة التي خُلقت للدفاع عنهم إلى جهازٍ إداريٍّ صامت، يفقد الناس الثقة في الخطاب برمّته، وتصبح الهوية الوطنية نفسها تحت وطأة الخيبة.

ومن المفارقات أن أغلب أفراد الجالية لا يعرفون أصلًا بوجود مجلسٍ يُفترض أنه يُعبّر عنهم ويحتضن همومهم.
فمن يسأل المجلس عن إنجازاته، يصطدم بفراغٍ في التواصل وغيابٍ في الحضور الميداني.
حتى الحوار مع الجالية أصبح فعلاً موسمياً يُستدعى في المؤتمرات والمواسم الرسمية ثم يتلاشى مع أول رحلةٍ عابرةٍ للطائرة.
كأنّ المجلس يعيش في برجٍ إداريٍ معزول، بينما الجالية تُصارع واقعًا يوميًا مليئًا بالتحديات.

وبينما يعيش أبناء الجالية على وقع الانتظارات، يكتفي عبد الله بوصوف عبر صفحته في “فيسبوك” بنشر تدويناتٍ أقرب إلى اليوميات الفكرية منها إلى قضايا المهاجرين.
كأنّ الرجل يعيش في زمنٍ موازٍ، زمنٍ لا مكان فيه لمشاكل الاستثمار، أو لمعاناة الحصول على الوثائق، أو لقضايا الأجيال الجديدة التي تبحث عن مكانها بين الوطن والمهجر.
الخطأ هنا ليس في الكتابة، بل في الغياب… غياب الإنصات، وغياب الإحساس بأن “الصفحة الرسمية” لا تُغني عن صفحة الوطن المفتوحة على الوجع.

في خطابه الأخير، دعا الملك محمد السادس إلى “نقلةٍ نوعيةٍ في تدبير شؤون الجالية”، وإلى إنشاء مؤسسةٍ جديدة تُوحّد الجهود وتُنهي حالة التشتت المؤسساتي.
تلك الإشارة الملكية بدت كإعلانٍ غير مباشرٍ عن نهاية مرحلة وبداية أخرى، مرحلةٍ يُفترض أن تُخضع الجميع بمن فيهم مجلس الجالية لقواعد الفعالية والمساءلة.
لكن الإصلاح، كما يبدو، لن يكتمل بتغيير البُنى وحدها، فالمشكلة ليست في النصوص، بل في النفوس التي تُديرها.
حين تتحوّل المؤسسة إلى مجالٍ مغلقٍ على نخبةٍ محدودةٍ من الوجوه، وتغيب عنها روح النقد والمبادرة، تفقد قيمتها الرمزية وتتحوّل إلى عبءٍ على من تمثلهم.

الإنقاذ الحقيقي لن يأتي من لجانٍ أو شعاراتٍ جديدة، بل من إرادةٍ سياسيةٍ صادقة تُعيد الثقة بين الدولة ومواطنيها في الخارج.
الملك وحده يملك سلطة الإشارة، لكن التنفيذ يحتاج إلى وعيٍ مؤسساتيٍّ جديد يربط بين الكفاءة والمحاسبة، ويجعل من الجالية شريكًا لا موضوعًا إداريًا.
أما أبناء الجالية أنفسهم، فهم مدعوون للانتقال من موقع المتفرّج إلى موقع الفاعل، عبر مبادراتٍ مدنيةٍ حقيقية تُعبّر عنهم وتفرض حضورهم.

لا يُقاس احترام الدولة لجاليتها بعدد المؤسسات المكلّفة بشؤونها، بل بقدرتها على حماية كرامتهم وجعل صوتهم مسموعًا داخل الوطن.
إن ما يعيشه مجلس الجالية اليوم ليس أزمة شخصٍ أو منصب، بل أزمة ثقةٍ تستدعي شجاعة في المكاشفة قبل فوات الأوان.
لقد آن أوان الحقيقة، فالهجرة لا تُدار بالبيانات، بل بالضمير.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version