قدّم محمد المهدي بنسعيد، وزير الشباب والثقافة والتواصل، تصورًا جديدًا لما أسماه “التنظيم الذاتي للصحافة”، معتبرًا أن على الصحافيين تدبير شؤونهم بأنفسهم، دون تدخل من الحكومة، لأن ذلك هو جوهر الاستقلال المهني كما نص عليه الدستور المغربي في فصله الثامن والعشرين.
كلام يفيض بالثقة في حرية المهنة، لكنه يطرح سؤالًا أعمق: هل يمكن الحديث عن تنظيمٍ ذاتيٍّ حقيقي حين تكون الحكومة هي من تصوغ قانونه وتحدّد حدوده؟

جاءت تصريحات بنسعيد خلال يومٍ دراسي نظّمه مجلس المستشارين حول مشروع قانون إعادة تنظيم المجلس الوطني للصحافة، حيث أكّد أن النص الجديد “متطور ويعالج الاختلالات السابقة”، وأن الحكومة لم تتدخل في عمل اللجنة المؤقتة، بل اكتفت بصياغة النص بناءً على تصورها.
غير أن هذا الفصل بين “التصوّر المهني” و“الصياغة الحكومية” يبدو في جوهره محاولةً لتوفيق ما لا يتوافق: استقلال المهنة داخل إطارٍ تنظمه السلطة نفسها.

يقدّم الوزير المشروع كخطوةٍ نحو تحديث المشهد الإعلامي ومواكبة التحولات الرقمية، مع الاعتراف بأن الفضاء الرقمي أصبح الساحة الرئيسية لتداول الأخبار، وأن الذكاء الاصطناعي يفرض إعادة تعريف مهنة الصحافة.
وفي هذا السياق، يؤكد بنسعيد أن دعم المقاولات الإعلامية الجادة شرطٌ لحماية جودة المحتوى من المنافسة غير المهنية.
غير أن الواقع الاقتصادي لعدد كبير من المؤسسات الصحفية لا يزال هشًّا، يراوح بين ضعف الموارد وضغط الإشهار، ما يجعل الحديث عن استقلالٍ فعلي أشبه برهانٍ على توازنٍ غير متكافئ.

ويرى الوزير أن تقوية المجلس الوطني للصحافة تمثّل تقويةً للنموذج الاقتصادي للمهنة، وأن دوره يجب أن يتوسع في مجالات التكوين المستمر، وضمان الشفافية في منح البطاقة المهنية، ومعالجة الشكايات بما يعزّز الثقة بين المجتمع والإعلام.
لكنّ هذه الثقة لا تُبنى بالنوايا وحدها، بل بوجود بيئةٍ قانونيةٍ ومؤسساتيةٍ تحترم استقلال القرار المهني، وتضع حدودًا واضحة بين دور الدولة كضامنةٍ للإطار العام، ودور الصحافيين كحماةٍ للمضمون الحر.

إنّ مشروع التنظيم الذاتي في صيغته الحالية يعبّر عن طموحٍ إصلاحيٍّ حقيقي، لكنه يظل محاطًا بتناقضٍ بنيويٍّ عميق:
كيف يمكن لحريةٍ تُشرّعها الحكومة أن تكتمل استقلاليتها؟
وهل يكفي أن تُمنح المهنة أدواتها القانونية لتتحرر من وصايتها الرمزية؟

بين خطاب الإصلاح وواقع الممارسة، يظل السؤال مفتوحًا:
هل نعيش ميلاد استقلالٍ مهنيٍّ جديد؟ أم نسخةً محسّنةً من الرقابة الناعمة باسم التنظيم الذاتي؟
إلى أن يُجاب على هذا السؤال، سيبقى عنوان المرحلة كما يصفه الشارع الصحافي:
حريةٌ مؤطّرة… وتنظيمٌ ذاتيٌّ بإخراجٍ حكومي.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version