تحدث صباح اليوم بالرباط محمد المهدي بنسعيد بلغةٍ مختلفة عمّا اعتاده الرأي العام في خرجاته السابقة.
لم يكن الخطاب عن المهرجانات ولا عن دعم المؤثرين، بل عن حقٍّ جديدٍ للفنانين التشكيليين سماه “حق التتبع”.
كلمة بسيطة في ظاهرها، لكنها تحمل خلفها محاولة لترميم علاقة مهزوزة بين الفنان والقانون، بين الإبداع والعدالة.
الوزير، وهو يفتتح الندوة الإقليمية الإفريقية حول حق التتبع، بتنظيمٍ مشترك بين وزارة الثقافة والمنظمة العالمية للملكية الفكرية الويبو، بدا مقتنعًا بأن هذا الحق هو أكثر من مجرد إجراء قانوني، بل هو اعترافٌ رمزيٌّ بدور الفنان في الثروة اللامادية للمجتمع.
قالها بعبارة محسوبة: «حق التتبع ليس مجرد آلية قانونية، بل هو اعتراف ملموس بمساهمة الفنانين في الثراء الثقافي والاقتصادي لمجتمعاتنا».
كلمات أنيقة فعلاً، لكنها تُخفي وراءها سؤالًا أعمق: هل يكفي الاعتراف بالمبدع في النصوص، بينما يعيش على هامش السياسات الثقافية في الواقع؟
قانون “حق التتبع” الذي صادقت عليه المملكة سنة 2022 ودخل حيّز التنفيذ سنة 2023 يُعتبر خطوة متقدمة من حيث المبدأ.
فهو يتيح للفنانين التشكيليين الحصول على نسبةٍ من قيمة إعادة بيع أعمالهم، أي أن اللوحة لا تُباع مرة واحدة، بل تظلّ مصدر رزقٍ متجدد لصاحبها.
غير أن هذا الإطار التشريعي لا يزال يسبح في فراغٍ مؤسساتي، لأن السوق الفنية المغربية نفسها غير مُهيكلة ولا تخضع لآليات تتبع واضحة.
فمن سيتولى مراقبة الأسعار، وتحديد نسب الأرباح، وضمان وصول الحقوق إلى أصحابها؟
هل هو المكتب المغربي لحقوق المؤلف، أم جهة أخرى لم تُعلن بعد عن وجودها؟
القانون وُجد، لكن السوق لم توجد بعد.
الوزير قدّم هذه الخطوة على أنها ترجمة لرؤية ملكية تجعل من الثقافة رافعة للتنمية،
لكن خلف هذا التقديم البروتوكولي، يمكن قراءة الرسالة السياسية الأعمق: المغرب يريد أن يتحدث لغة جديدة في القارة الإفريقية لغة الحقوق الثقافية بدل لغة الدعم المشروط.
فالمملكة تحاول أن تُقدّم نفسها كصوتٍ إفريقي معتدل يُعيد الاعتبار للمبدعين، ويمنحهم مكانة تليق بمن يصنعون رمزية القارة في الفنون المعاصرة.
لكن بين الرغبة والخطوات، ما زال الحلم يتعثّر على أبواب المؤسسات.
في السنوات الأخيرة، برزت عبارة “العدالة الثقافية” في الخطاب الرسمي المغربي كعنوان طموح لمرحلة جديدة.
غير أن ما يُسمّى بالعدالة الثقافية ما زال أقرب إلى الإنشاء منه إلى الممارسة.
الفنانون أنفسهم يشتكون من غياب الشفافية في منح الدعم، ومن سيطرة الدوائر نفسها على المشاريع الكبرى.
فهل يمكن فعلاً أن نتحدث عن “حق التتبع” في بلدٍ لم تُنشر بعد لائحة المستفيدين من الدعم العمومي للفن؟
وهل يجوز أن نحتفل بقانونٍ جديدٍ لحماية المبدعين بينما بعضهم يعيش في الهامش بلا تغطية اجتماعية ولا تقاعد ولا معارض منتظمة؟
المفارقة صارخة: الوزارة تتحدث عن “التتبع الفني”، بينما الفنانون ما زالوا يبحثون عمّن “يتتبع” حقوقهم الإدارية المعلقة منذ عقود.
اللقاء لم يكن ثقافيًا فقط، بل ديبلوماسيًا بامتياز.
فمن خلال التعاون مع الويبو وتوقيع مذكرات التفاهم، يسعى المغرب إلى ترسيخ مكانته كمرجع إفريقي في التشريعات الثقافية.
لكن ما بين الخطاب الأممي والواقع المحلي، تتسع الهوة: لا بيانات دقيقة عن حجم السوق، ولا إطار واضح لمراقبة المبيعات الفنية، ولا آلية عملية لتفعيل هذا الحق الجديد.
هي إذن خطوة رمزية، تحمل طابع “الريادة الإفريقية”، لكنها تفتقر بعدُ إلى أدوات الإنجاز.
وبين لغة القانون ولغة الواقع، يظل الفنان هو الحلقة الأضعف في معادلة لا تزال تُكتب بالمداد الجميل وتُنفّذ بالحبر الباهت.
بنسعيد تحدث عن “بيئة قانونية شفافة وقابلة للتتبع”، وعن “تأمين فضاء آمن للإبداع”،
لكن الفنان الإفريقي الذي حضر الندوة ربما خرج بالسؤال نفسه الذي يخرج به المواطن كل مرة:
أين يبدأ هذا الفضاء؟ ومن يحرس شفافيته بعد الخطاب؟
فإذا كان القانون قد وجد ليحمي الفن، فمن يحمي الفنان من الانتقائية، ومن ذاكرةٍ قصيرةٍ تُكرّم الأسماء وتنسى الإبداع ذاته؟
لا أحد يختلف على أن حماية المبدع واجب وطني، وأن الاعتراف بالفن كقيمة اقتصادية خطوة في الاتجاه الصحيح.
لكن العدالة الثقافية ليست نصًا في الجريدة الرسمية، بل ممارسة يومية في السوق، في قاعات العرض، في معايير الدعم، وفي الشفافية أمام الرأي العام.
فحين يتحدث الوزير عن “حق التتبع”، يتمنى الفنانون لو يبدأ أولاً بتتبع مصير الأموال التي تُصرف باسم الثقافة ولا تعود إليها.
الندوة انتهت بتوصيات أنيقة، والبيانات صدرت كما العادة بصيغةٍ مثالية،
لكن السوق الفنية في إفريقيا، والمغرب ضمنها، ما زالت تبحث عن من يتتبع أثرها.
وفي الوقت الذي يُكرّم فيه القانون الفنان التشكيلي على لوحته، تظلّ لوحات كثيرة معلقة على جدار الانتظار، بلا ثمنٍ ولا تتبّعٍ ولا ذاكرة.
فالعدالة الثقافية ليست توقيعًا على قانون… بل توقيع ضميرٍ على لوحة الوطن.
