لا يحتاج فوزي لقجع إلى أضواء الكاميرات كي يكون حاضرًا.
يكفي أن يُذكر مشروعٌ رياضيٌّ ضخم أو صفقةٌ جديدة باسم “المغرب 2030” حتى يظهر توقيعه في الخلفية، كظلٍّ ثابتٍ على كل وثيقة، وكأن الإنجاز لا يكتمل إلا حين يمرّ عبر يده.
الرجل الذي بدأ مسيرته داخل دهاليز وزارة المالية صار اليوم مركز الثقل في منظومةٍ تجمع المال والسياسة والرياضة في نقطةٍ واحدة،
من دون حدودٍ واضحة بين ما هو وطني وما هو شخصي، بين ما هو إداري وما هو سلطوي، بين ما هو مشروعٌ للدولة وما هو مشروعٌ لرجلٍ بات يُدير كل شيء من الخزينة إلى الفيفا.
لقجع اليوم ليس مجرد وزيرٍ منتدب مكلف بالميزانية، بل رئيس الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم،
ورئيس لجنة تنظيم “مونديال 2030”، ورئيس مؤسسة “Morocco 2030 Foundation” المشرفة على المشاريع الضخمة،
ونائب أول لرئيس الاتحاد الإفريقي لكرة القدم، وعضو مجلس الفيفا، الهيئة الأقوى في القرار الكروي العالمي.
تعدد المناصب لا يُترجم هنا كرمزٍ للثقة فحسب، بل كمؤشرٍ على تحوّل الرجل إلى مؤسسةٍ قائمةٍ بذاتها؛
مؤسسةٍ تتجاوز الحدود بين الدولة والجامعة، بين المال العام والرعاية الخاصة، بين من يصرف ومن يُحاسِب.
فكيف يمكن الحديث عن الشفافية حين يملك شخصٌ واحدٌ صلاحية التوقيع والمراقبة في الوقت نفسه؟
ما يثير الدهشة ليس حجم السلطة بحد ذاته، بل صمت المؤسسات من حولها.
ففي الوقت الذي تتضاعف فيه ميزانية الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم إلى مئات الملايين من الدراهم سنويًا،
لا توجد تقارير مالية منشورة بشفافية تشرح للرأي العام أين تُصرف هذه الأموال، ومن يربح من الصفقات العمومية التي تُبرم باسم الرياضة الوطنية.
الجامعات تصادق على الأرقام في دقائق، الصحافة لا تحصل على الوثائق، والمجالس المنتخبة لا تجرؤ على طرح الأسئلة،
وكأن المال الرياضي يعيش في منطقةٍ رمادية خارج الدستور وخارج المساءلة.
إنها مفارقةٌ صارخة: دولةٌ تُشدّد على رقابة المواطن، وتغضّ الطرف عن رقابة الأقوياء.
ثم جاءت تسريبات “جبروت” لتفتح الباب المسكوت عنه.
لم تأتِ بوثائق دامغة، لكنها فتحت ثغرةً في جدار الصمت.
أحاديث عن توكيلاتٍ ماليةٍ وعقاريةٍ باسم زوجته، وإشارات إلى تضاربٍ محتملٍ في المصالح،
ورغم أن شيئًا منها لم يُثبت رسميًا، إلا أن مجرّد انتشارها بهذا الحجم يعكس أزمةَ ثقةٍ عميقة.
فحين يغيب التدقيق، تصبح الإشاعة وثيقة، وحين تغيب الشفافية، تُصبح المنصّات الرقمية محاكم بديلة للرأي العام.
ولعلّ أخطر ما كشفته “جبروت” ليس مضمونها، بل ردّ فعل الدولة عليها: صمتٌ مهيبٌ يؤكد أن ما لا يُقال أخطر مما يُقال.
ومع اقتراب المغرب من تنظيم كأس إفريقيا للأمم المقبلة، تتجدد الأسئلة حول المسار المالي لهذا الحدث،
وحول حجم الإنفاق الذي يُقدّر بمليارات الدراهم لتجهيز الملاعب والفنادق والبنيات التحتية.
الملف يُقدَّم كإنجازٍ وطني واستحقاقٍ قاري، لكنه أيضًا اختبارٌ للحوكمة.
فإذا كانت كأس إفريقيا لحظة فخرٍ رياضي، فهي أيضًا لحظة حسابٍ مالي:
كم كلّف الإعداد؟ ومن استفاد من العقود؟ ومن راقب الصفقات التي فُتحت في الخفاء؟
الفرجة القادمة في الملاعب قد تُخفي وراءها كلفة لا يجرؤ أحد على تقديرها علنًا،
وكأن الدولة تخشى أن يُفسد ضوء الأرقام بهجة الأعلام.
في موازاة ذلك، تتسارع المشاريع المليارية المرتبطة بالمونديال، من ملاعب “بنسليمان” و“طنجة الكبير” إلى إعادة تهيئة “مراكش 2030”.
كل شيءٍ يتحرك بسرعةٍ غير مسبوقة، لكن لا أحد يعرف بدقةٍ من يفوز بالصفقات، ومن يُشرف على التقييم، ومن يُحاسَب عند الخطأ.
المال العام يختلط بالتمويل الدولي، والجامعة تموّل ما كان من اختصاص الحكومة، والحكومة تغطي ما كان من مسؤولية الجامعة، والمواطن يبقى متفرجًا في مدرجات الوعود.
يتفرّج على إنجازٍ يُروَّج له كرمزٍ للعصر الجديد، لكنه في العمق إنجازٌ بلا مرآة.
إنه الوجه العصري للسلطة المطلقة: شفافةٌ في الصورة، قاتمةٌ في الدفاتر.
الخطير في تجربة لقجع ليس أنه قوي، بل أنه لا يُسائل.
هو مسؤولٌ لا يخضع للمساءلة بالأدوات نفسها التي يفرضها على الآخرين، ورمزٌ لمرحلةٍ صارت فيها الكفاءة تُستعمل كدرعٍ ضد الرقابة.
من ذا الذي يجرؤ على استدعائه أمام البرلمان أو المجلس الأعلى للحسابات؟
من الذي يمكنه أن يطلب تقريرًا تدقيقيًا في ميزانية الجامعة أو مؤسسة “المغرب 2030” وهو وزير المالية الفعلي؟
لقد صارت منظومة النفوذ الرياضي تشتغل بمنطق “دولةٍ داخل الدولة”، تملك مواردها، وإعلامها، وولاءها الشعبي، وغطاءها السياسي.
فمن أين تأتي المحاسبة حين تتداخل السلطات وتذوب الحدود بين المسؤوليات؟
في الجوهر، لا يتعلق الأمر بشخص فوزي لقجع بقدر ما يتعلق بغياب الإطار المؤسساتي القادر على مراقبة النفوذ حين يتجاوز الحدود.
فحين تُمنح السلطة دون رقيب، تتحول الكفاءة إلى هيمنة، والإنجاز إلى احتكار.
المال العمومي ليس ملكًا لأحد، لكنه صار في كثيرٍ من المشاريع الرياضية يُدار بعقلية المقاولة الخاصة،
حيث يغيب النشر والافتحاص وتحضر لغة الولاء والثقة الشخصية.
وكلما علت الأصوات المطالبة بالتدقيق، جاء الرد بصيغةٍ ناعمة: “نحن في مرحلة بناء الصورة الوطنية.”
كأنّ الشفافية تهدد الصورة، وكأنّ الحسابات خطرٌ على الإنجاز.
ما يجب أن يُقال بوضوح هو أن فتح دفاتر فوزي لقجع ليس حربًا على الرجل، بل إنقاذٌ للدولة من نفسها.
لأن المؤسسات التي لا تجرؤ على مراقبة أقويائها تفقد شرعيتها الأخلاقية أمام مواطنيها،
ولأن الرياضة التي تُموَّل من المال العام لا يمكن أن تُدار كما تُدار الشركات الخاصة.
من يملك الجرأة على فتح الدفاتر يملك الشجاعة لبناء دولةٍ لا تُدار بالصمت.
والمغرب، وهو يستعد لاستقبال كأس إفريقيا 2025 ومونديال 2030، لا يحتاج فقط إلى ملاعب جديدة، بل إلى قواعد جديدة:
قواعد تقول إن الشفافية ليست نقيض الوطنية، بل شرطها الأول.
فوزي لقجع هو نتاجٌ طبيعي لزمنٍ صنعه التوازن بين الإنجاز والخوف من المساءلة.
لكن كل توازنٍ هشّ، وكل نفوذٍ بلا مراجعةٍ مؤقت.
وإذا كانت الدولة تراهن على صورته في المحافل الدولية، فعليها أن تراهن أيضًا على شجاعتها في تدقيق أرقامه داخليًا.
فالتاريخ لا يرحم من صنعوا المجد دون أن يتركوا الأثر المالي مكتوبًا بالحبر لا بالتصفيق.
وحين تُغلق الدفاتر باسم “المصلحة العليا”، تُفتح كل الأبواب أمام الشك.
ذلك هو التحدي الحقيقي اليوم: أن يُفتح دفتر فوزي لقجع، لا لمحاسبته كشخص، بل لاستعادة الثقة في فكرة الدولة نفسها.
قد يعلو التصفيق في الملاعب، لكنّ الأمم التي تحترم نفسها لا تكتفي بالتصفيق… بل تفتح الدفاتر.
