تسعة أسطر فقط كانت كافية لتمنح وزارة الصحة المغربية صلاحيةً غير مسبوقة: إصلاح 81 مستشفىً عموميًّا عبر مساطر تفاوضية استثنائية، بلا مناقصات، وبلا منافسة، وبلا شفافية كافية.

موقع “نيشان” نشر المراسلة الموقَّعة من رئيس الحكومة عزيز أخنوش، والموجَّهة إلى وزير الصحة أمين التهراوي، والتي يُفوِّض فيها “بصفةٍ استثنائية” للمصالح التابعة للوزارة صلاحية اللجوء إلى المسطرة التفاوضية لتأهيل المؤسسات الاستشفائية “التي تعرف وضعية متدهورة”.

لكن الجديد لا يكمن في نص المراسلة فحسب، بل في الوثيقتين المرفقتين اللتين تتضمنان اللائحة الكاملة للمستشفيات المعنية بالإصلاح: واحدٌ وثمانون مرفقًا صحيًا موزَّعة على مختلف جهات المملكة — من طنجة إلى الداخلة، مرورًا بالدار البيضاء وفاس ومراكش والراشيدية وتيزنيت — جميعها مدرجة ضمن برنامج إصلاح عاجل تموّله الدولة من المال العام.

الوثيقتان الرسميتان، الممهورتان بختم وزارة الصحة، تُظهران توزيع المؤسسات حسب الجهات: جهة الدار البيضاء – سطات تشمل 24 مؤسسة من بينها مستشفى مولاي يوسف، ابن رشد، محمد الخامس، بن مسيك، الحسن الثاني بسطات، ومستشفى الأمير مولاي الحسن بالنواصر. جهة فاس – مكناس تضم مستشفيات ابن الخطيب، ابن باجة، الغساني، والمركز الاستشفائي محمد الخامس. جهة طنجة – تطوان – الحسيمة تشمل مستشفيات سانية الرمل، بن كريرش، محمد السادس، محمد الخامس، العروي، والحساني بالناظور. جهة سوس – ماسة تضم مستشفى الحسن الثاني بأكادير، الحسن الأول بتزنيت، ومستشفيات تارودانت وتيط مليل وأيت باها.
أما الجهات الجنوبية، من العيون إلى الداخلة، فتشمل مستشفيات العيون، السمارة، بوجدور، طاطا، والداخلة.

ثمانيةٌ وسبعون مستشفىً وثلاثة مراكز صحية، جميعها موجَّهة نحو “إصلاح عاجل” عبر صفقات تفاوضية لا تمرّ من مسطرة المنافسة العلنية التي يفرضها القانون.

القضية لا تتعلق بعدد المؤسسات بقدر ما تتعلق بطبيعة المسطرة. فبدل اللجوء إلى المنافسة العمومية كما ينصّ مرسوم الصفقات رقم 2.22.431، اختارت الحكومة تفعيل المادة 154 التي تتيح التراضي المباشر في حالات “الضرورة القصوى”.
غير أن المفارقة الصارخة تكمن في أن عددًا من هذه المستشفيات دخل، خلال السنوات الأخيرة، في مسار الخوصصة أو الشراكات مع القطاع الخاص.

تقرير لموقع Assafir Arabi كشف أن بعض هذه المؤسسات خضعت لصيغة “البيع مع إعادة الإيجار”، بينما نشرت Achtari24 وثائق تؤكد تفويت مستشفيات سانية الرمل وتطوان والعرائش وكزناية لجهات خاصة.
كما أكدت جريدة La Vie Éco أن الصندوق المغربي للتقاعد اشترى خمسة مراكز استشفائية بقيمة 4.5 مليار درهم وأعاد تأجيرها للدولة بعقود طويلة الأمد.
بمعنى آخر، جزء من المؤسسات التي ستُرمَّم بمالٍ عمومي لم يعد في ملكية الدولة أصلًا.

هنا تتفجّر الأسئلة الكبرى: هل المال المخصَّص للإصلاح سيُصرف على منشآتٍ باتت بيد الخواص؟ هل الدولة تُرمّم ممتلكاتٍ لم تعد تملكها؟ ومن يراقب طبيعة العقود التي تربط وزارة الصحة بهذه الجهات؟

إنّ غياب الوضوح في التمويل، والسرية التي تحيط باللوائح، يجعلان من هذا البرنامج نموذجًا للخلط بين المرفق العام والمصالح الخاصة.
فالمستشفى الذي يُموَّل من ميزانية الدولة يجب أن يبقى مرفقًا عموميًا خاضعًا للرقابة والمحاسبة، لا أصلًا ماليًا يُدار عبر صناديق استثمارية.

السلطة التنفيذية تبرّر هذا القرار بـ“حالة الاستعجال”، غير أنّ هذه العبارة تحوّلت إلى مفتاحٍ سحري لفتح كل الأبواب المغلقة: الاستعجال في بناء الملاعب، الاستعجال في الصفقات الرقمية، والآن الاستعجال في إصلاح المستشفيات.
لكن متى كانت أزمة البنية الصحية في المغرب مفاجأةً تستدعي الطوارئ؟ إنها نتيجة تراكم الإهمال، لا كارثة لحظية.

في الديمقراطيات الراسخة، أي صفقة بهذا الحجم تُعرض على البرلمان أو تخضع لموافقة لجنة الصفقات العمومية.
أما في الحالة المغربية، فالمراسلة الموقّعة من رئيس الحكومة تمنح تفويضًا شاملاً لوزارة الصحة دون رقابة مسبقة، ما يعني عمليًا تعليق آليات المراقبة المالية.
وبما أن المراسلة لم تُنشر رسميًا في الجريدة الرسمية، فإنها تظلّ قرارًا إداريًا غير متاح للرأي العام، رغم مساسه المباشر بميزانية الدولة.

ما يحدث لا يقتصر على قطاع الصحة؛ إنه نموذج لطريقة حكم تُغلف التنازل عن الملكية العامة بشعار “الإصلاح”.
فالدولة التي تبيع أصولها ثم تنفق لإصلاحها تفقد دورها كفاعل اجتماعي وتتحول إلى ممولٍ للقطاع الخاص.
ويعيد هذا المسار طرح سؤالٍ جوهري: هل نحن أمام إصلاح للقطاع الصحي، أم أمام تهيئة ناعمة لخوصصة الصحة؟

الوثائق التي كشفها نيشان أعادت تعريف مفهوم الإصلاح في المغرب.
فالإصلاح، في صورته الجديدة، ليس بالضرورة تحسينًا للمرفق العام، بل تثبيتٌ لمنظومة تعاقدات تُدار في الظل.
وما لم تُكشف اللائحة النهائية للشركات التي ستستفيد من هذه الصفقات، وما لم يُوضَّح مصدر التمويل، سيبقى السؤال معلّقًا: من يُصلح ماذا؟ الدولة تُصلح… لكن لمن؟

فالمستشفى الذي يُرمَّم بمال الشعب يجب أن يبقى ملك الشعب.
أما حين تُصبح الإصلاحات تمويلًا غير مباشر للخواص، فذلك ليس “تأهيلًا صحيًا”، بل تراجعٌ في سيادة الدولة على حقّ العلاج.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version