Finance Law 2026: When Neoliberalism Rules the Numbers of the State

يقدّم مشروع قانون المالية لسنة 2026 صورة دقيقة عن التحوّل العميق الذي يطال دور الدولة في المغرب.
فبين الخطاب الرسمي المفعم بعبارات “الاستثمار في الرأسمال البشري” وواقع الأرقام التي تُوجّه نحو السوق والربحية، تتجلّى المفارقة الكبرى: الدولة التي كانت يومًا ضامنة للعدالة الاجتماعية، أصبحت اليوم محكومةً بمنطق التوازنات المالية لا التوازنات الإنسانية.

الميزانية الجديدة لا تغيّر فلسفة الحكم الاقتصادي بقدر ما تكرّسها. فزيادة نفقات الصحة بنسبة 30 في المئة والتعليم بنسبة 13 في المئة، رغم أهميتها العددية، لا تمسّ جوهر المشكلة. إنها زيادات تُستخدم كديكور اجتماعي لتجميل واجهة مالية تزداد خضوعًا لقواعد النيوليبرالية الصارمة، حيث يُقاس النجاح بالانضباط المحاسبي لا برفاه المواطن.

توزيع الموارد في مشروع قانون المالية يعبّر بوضوح عن أولوية رأس المال على العدالة.
فالقطاعات الاجتماعية لا تحظى حتى بثلث ما يُخصّص للبنية التحتية والمشاريع الكبرى، بينما تتواصل الإعفاءات الضريبية لفائدة المجموعات الاقتصادية والمستثمرين الكبار.
المواطن العادي، الذي يمول الميزانية من جيبه عبر الضرائب غير المباشرة، يظلّ الحلقة الأضعف في معادلة الربح والخسارة، يدفع الثمن مرتين: حين تُقتطع الضرائب من دخله المحدود، وحين يُجبر على شراء الخدمات التي انسحبت الدولة من تقديمها.

في قطاع الصحة، يظهر التناقض بين الشعارات والنتائج بأوضح صوره. فالمبلغ المخصّص، وإن بدا ضخمًا، لا يكفي لإخراج المستشفيات من حالة العجز البنيوي المزمن.
إن مشاهد الانتظار الطويل ونقص المعدات الطبية وغياب الأطر المؤهلة ليست حوادث عرضية، بل نتيجة مباشرة لتوجهٍ سياسي جعل الصحة العمومية هامشًا لصالح القطاع الخاص، الذي يُقدَّم اليوم كشريك استراتيجي، بينما هو في الواقع المستفيد الأكبر من تراجع الدولة.

وفي التعليم، تتكرّس النزعة نفسها. فالميزانية البالغة 97 مليار درهم تُدار وفق منطقٍ إداري وتجاري أكثر من كونها رؤيةً وطنية لبناء الإنسان.
تم تفكيك الوظيفة التعليمية المركزية لصالح الأكاديميات الجهوية، ما أضعف وحدة المدرسة العمومية وحوّلها إلى فضاءٍ للتجريب الإداري والمردودية البيروقراطية.
تحت عناوين “الجودة” و“المدرسة الرائدة” تتقدّم الخصخصة الناعمة في صمت، ويُقاس نجاح الأستاذ والتلميذ بمؤشرات الأداء لا بالمستوى المعرفي أو الأخلاقي.

هذا التوجه ليس صدفة، بل نتاجٌ لتراكم تاريخي بدأ منذ برامج التكيّف الهيكلي في ثمانينيات القرن الماضي، حين فُرض على الدولة أن تنكمش لتفسح المجال أمام السوق.
اليوم، وبعد أربعة عقود، ما زال المغرب يعيش نتائج تلك الوصفة النيوليبرالية التي تُعيد إنتاج التفاوت بدل معالجته.
فكلما ارتفعت مؤشرات النمو، ازدادت الهوة بين من يملكون ومن ينتظرون.
الاقتصاد يتقدّم، لكن المجتمع يتعب. الأرقام تُبهر المؤسسات المالية، لكنّها لا تُقنع المريض الذي ينتظر سريرًا في المستشفى، ولا المدرّس الذي يواجه قسمًا من أربعين تلميذًا في قريةٍ نائية.

في مقابل ذلك، تتضخّم ميزانيات المشاريع الكبرى: الموانئ، والطرق، والقطارات فائقة السرعة، والمناطق الصناعية.
إنها صورة براقة لمغربٍ يُقدَّم دوليًا كبلدٍ صاعدٍ واستثماريٍّ واعد، لكنها في الداخل تُعيد إنتاج اللامساواة.
فما جدوى طريقٍ سريع إذا كان المواطن لا يجد طريقًا إلى العلاج؟ وما معنى التنمية إذا لم ترفع عن الفقراء كلفة الحياة اليومية؟

إن قانون المالية الجديد لا يعبّر عن إرادةٍ سياسية في إعادة توزيع الثروة، بل عن رغبةٍ في تسيير الدولة كما تُدار الشركات.
كل شيء محسوب بالدقة المحاسبية: خفض النفقات، ضبط العجز، تعظيم الإيرادات، بينما تُهمّش الأسئلة الكبرى المتعلقة بالكرامة والعدالة والفرص المتكافئة.
النيوليبرالية هنا ليست خيارًا اقتصاديًا فحسب، بل فلسفة حكمٍ تجعل المواطن رقمًا في جدول الإيرادات، وتحوّل العدالة الاجتماعية إلى بندٍ تجميلي في نهاية الوثيقة.

هكذا تتحوّل الميزانية إلى مرآةٍ تعكس حقيقة الدولة الحديثة: دولةٌ منضبطة في الحسابات، متصالحة مع الأسواق، لكنها بعيدة عن نبض الإنسان.
في الظاهر، هناك توازن مالي محكم؛ وفي العمق، اختلال اجتماعي متزايد. فحين تُكتب الميزانية لحساب الأقلية، لا عجب أن تُقرأ على مسامع الأغلبية كدرسٍ في الصبر.

إن مشروع قانون المالية 2026 ليس مجرد خطةٍ للإنفاق، بل وثيقةٌ سياسية تؤكد استمرار الدولة في مسارٍ يقدّم الاستقرار المالي على العدالة الاجتماعية، ويعتبر النمو غايةً في ذاته لا وسيلةً لبناء حياةٍ كريمة.
ولعلّ أخطر ما في الأمر أن هذا النموذج الاقتصادي لم يعد مؤقتًا، بل صار نظامًا مستقرًا يوزّع الأرباح على القادرين والأعباء على الباقين.

النتيجة النهائية واضحة: الأرقام ترتفع، لكن الحياة لا تتحسّن. الميزانية متوازنة على الورق، غير أنها مختلّة في الواقع.
وبين منطق السوق ومنطق الدولة تضيع العدالة، ويظلّ المال العام يسير في طريقٍ واحدٍ: سريعٍ نحو من يملكون، مزدحمٍ لمن ينتظرون.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version