بقلم: نعيم بوسلهام
بعد عقدين من إطلاق المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، التي قُدّمت سنة 2005 كأكبر مشروع اجتماعي طموح لمحاربة الفقر والهشاشة والإقصاء، يبدو أن شعارات “التنمية البشرية” و“التمكين الاقتصادي” لم تعد تُقنع الرأي العام، خاصة أمام تراكم التقارير التي تكشف عن خروقات مالية وإدارية خطيرة في تدبير مشاريع المبادرة بمختلف جهات المملكة، وعلى رأسها مدينة سلا التي تحولت إلى نموذج صارخ للاختلالات البنيوية وسوء التدبير.
أرقام براقة تخفي واقعاً قاتماً
بحسب المعطيات الرسمية التي قدّمتها اللجنة الإقليمية للتنمية البشرية بسلا بمناسبة الذكرى العشرين لإطلاق المبادرة، تم إنجاز 1128 مشروعاً خلال الفترة ما بين 2019 و2025، بكلفة إجمالية بلغت 336 مليون درهم، منها 285 مليون درهم ممولة من ميزانية المبادرة.
لكن خلف هذه الأرقام التي تبدو للوهلة الأولى مبشرة، تتوارى حقيقة مرة عنوانها مشاريع متعثرة، أسواق مغلقة، منصات فارغة، وتبديد ممنهج للمال العام.
ففي الوقت الذي تتحدث فيه التقارير الرسمية عن إنجاز مئات المشاريع في إطار “تحسين الدخل والإدماج الاقتصادي للشباب” و“الدفع بالرأسمال البشري”، تشير تقارير تفتيش مركزية إلى أن عدداً من هذه المشاريع لا وجود له على أرض الواقع، أو لم يحقق الأهداف المعلنة، بسبب سوء التدبير وغياب الرقابة واستغلال الدعم العمومي في أغراض شخصية.
“الأسواق النموذجية”.. مشاريع وهمية تبتلع الملايين
من أبرز النماذج الفاضحة لاختلالات المبادرة في سلا، مشاريع الأسواق النموذجية التي تحولت من “حلم اقتصادي” إلى “عبء عمراني ومالي”.
فالتقارير الميدانية كشفت أن العديد من هذه الأسواق ظلت مغلقة لسنوات رغم استنزافها لمبالغ ضخمة من المال العام، في حين انسحب عدد من مكاتب الدراسات والمقاولين دون إتمام الأشغال، بعد أن حصلوا على مستحقاتهم كاملة.
بعض هذه المشاريع، كما تؤكد مصادر مطلعة، لم تحترم المعايير التقنية ولا دفاتر التحملات، إذ تم إنجازها بتصاميم رديئة ومواد ضعيفة، ما جعلها عرضة للتصدع والإهمال.
ورغم استنفار المفتشية العامة للإدارة الترابية ولجان الافتحاص، ما تزال الملفات حبيسة الأدراج، دون أي إحالة على القضاء، وكأن مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة مجرد شعار موسمي يُرفع في المناسبات.
المال العام بين الفواتير الوهمية والمشاريع الورقية
تتحدث تسريبات من التقارير “السوداء” التي توصل بها في وقت سابق الوالي المنسق الوطني للمبادرة، محمد دردوري، عن اختلالات مالية جسيمة شملت تبديد الموارد، تضارب المصالح، تحويل أموال الدعم إلى حسابات خاصة، وإنشاء مشاريع لا أثر لها سوى في الوثائق.
وفي حالات أخرى، تم منح صفقات مباشرة لجمعيات مقربة من بعض المسؤولين دون احترام مبدأ المنافسة أو طلبات العروض، ما فتح الباب أمام شبهات المحسوبية واستغلال النفوذ.
وتشير مصادر من داخل بعض اللجان الإقليمية إلى أن العديد من المشاريع السابقة لم تخضع لأي تقييم أو تتبع موضوعي، وأن بعض الجمعيات فشلت في التسيير بسبب غياب الخبرة وضعف المراقبة، لتتحول المبادرة في بعض مناطق سلا إلى واجهة لتدوير الأموال أكثر من كونها رافعة للتنمية.
غياب المحاسبة.. أزمة الثقة في مشروع الدولة الاجتماعي
أمام هذا الوضع، ترتفع أصوات المجتمع المدني والفاعلين المحليين للمطالبة بفتح الملفات العالقة وإحالة المتورطين على القضاء، خاصة أن استمرار الغموض حول مآلات تلك التقارير يهدد مصداقية المبادرة برمتها، ويُضعف الثقة في إرادة الدولة في محاربة الفساد الإداري والمالي.
كيف يمكن للمبادرة أن تُطلق مرحلة ثالثة بملايين الدراهم في مشاريع جديدة، بينما ملفات المرحلة السابقة لم تُطو بعد بالشفافية المطلوبة؟
وهل يجوز الحديث عن “إدماج الشباب” و“تمكين النساء” في مدينة مثل سلا، بينما المنصات المخصصة لهم تعاني من سوء التسيير وغياب المتابعة؟
إلى متى ستبقى التقارير السوداء حبيسة الرفوف؟
إن المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، بمكانتها كأحد أهم البرامج الاجتماعية في تاريخ المغرب الحديث، لا تستحق أن تُختزل في صور احتفالية أو خطابات بروتوكولية.
المطلوب اليوم جرأة مؤسساتية تضع حدًا لحالة “السكوت المريب” عن ملفات الفساد، وتُعيد الاعتبار لمفهوم التنمية الذي فقد معناه في ظل غياب المساءلة والشفافية.
فبدون محاسبة حقيقية، ستظل المبادرة الوطنية، في سلا وغيرها، عنوانًا للفشل المُمأسس أكثر من كونها رافعة للتحول الاجتماعي والاقتصادي المنشود.

