In Morocco… The Picture Is Suspended When It Captures the Truth
فيديو بسيط… لكن وقعه كان أقوى من كل الخطب.
انتشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي مقطع مؤثر لأستاذٍ موقوف، لم يكن يدافع فيه عن نفسه بقدر ما كان يدافع عن كرامة مهنة بأكملها.
كلماته خرجت من قلب رجلٍ يعيش كل يوم داخل القسم، بين السبورة والتلاميذ، لا داخل مكاتب البلاغات. تحدث بهدوء، بشكرٍ أوّلٍ لزملائه وزميلاته في كل المدن، داخل المغرب وخارجه، ثم قال جملة تختصر المعنى كله:
«أنا اليوم لا أمثل نفسي… بل أمثل صورة رجل التعليم في هذا الوطن.»
وهنا يتضح عمق الجرح، فقرار التوقيف لم يكن إدارياً فحسب، بل إنسانياً بامتياز. وراء الورقة الباردة التي كُتب فيها “يوقَف حالاً مع إيقاف الأجرة الشهرية” توجد أسرة تتألم، وتلاميذ يتساءلون، وزملاء يشعرون أن صمتهم صار تهديداً لهم جميعاً.
الصدمة لم تكن في القرار فقط، بل في دلالته. أستاذٌ يُوقَف لأنه صوّر نفسه داخل القسم، خارج أوقات العمل، دون أن يمسّ حرمة المؤسسة أو يظهر تلاميذاً أو إدارة.
كل ما فعله أنه عبّر، بعفوية وصدق، عن غضبٍ إنساني تجاه صورٍ مؤلمة لاعتقال تلاميذ وشباب بطريقة مهينة.
فهل صار التعبير عن الألم جريمة؟ وكيف يُعاقَب من تحدّث من موقع الميدان، بينما تُترك عشرات الفيديوهات الأخرى التي تصور الأقسام والتلاميذ والأنشطة دون أن تُعتبر خرقاً للقانون؟ أم أن القانون يُفعَّل فقط حين تلتقط الصورة الحقيقة؟
قال الأستاذ عبارة تختصر الفلسفة التربوية كلها:
«كلّما عملتَ أكثر، أخطأت أكثر. ومن لا يخطئ… لا يعمل.»
في التعليم، الخطأ ليس عيباً، بل دليلاً على التعلّم، لكن حين يتعلق الأمر برجل التعليم، يصير الخطأ ذريعةً للعقاب، ويتحول الصدق إلى مغامرة مهنية محفوفة بالخسارة.
إنه من المؤلم أن يُكافَأ الصمت بالسلامة، ويُعاقَب التعبير عن الرأي بالحرمان من الأجر، في مهنةٍ يُفترض أن تزرع في الأجيال قيمة التفكير والنقد والحرية.
تذكّروا أن هؤلاء الأساتذة هم أنفسهم من صوّروا الدروس في بيوتهم خلال جائحة كورونا، حين كان الجميع يختبئ خوفاً من المرض.
فتحوا منازلهم وعدساتهم لتستمر الدراسة، تحمّلوا الخطر دون تعويض، دون وسام، دون حتى كلمة شكر. واليوم، يُعاقَب أحدهم لأنه صوّر نفسه وهو يعبّر عن رأيه.
أي مفارقة هذه؟ من صوّر الأمس كان بطلاً وطنياً، ومن صوّر اليوم صار موقوفاً ومتهماً بالإخلال بالواجب.
حين تحدث الأستاذ عن “مدارس الريادة”، لم يكن يهاجم أحداً، بل تساءل بصوت الميدان: من أين جاء هذا المشروع؟ ولماذا لم يُستشر من يعيش القسم يومياً؟ فمنذ سنة 1994، تُكتب تقارير المجالس التعليمية، وتُكرّر نفسها كل عام، ولا أحد يفتحها أو يقرأها.
مشاريع تنزل من فوق دون حوار، ثم تُعلن فاشلة بعد سنوات من الإنفاق والارتجال.
أي إصلاحٍ يُقصي رجل التعليم محكوم عليه بالفشل، لأن الإصلاح لا يُفرَض بقرارات، بل يُصنع بالعقول التي تدرّس وتربي وتبني.
في مقاطع كلامه، لم يخف الرجل وجعه الأستاذ في القسم اليوم يواجه جيلاً بأكمله، بمفرده، دون دعمٍ نفسي أو تجهيزٍ تربوي، وسط غياب الأسرة، وتراجع دور المجتمع، وسكوت الإدارة التي لا تحضر إلا لحظة التوبيخ أو العقوبة.
فكيف يُطلب من رجل التعليم أن يربّي، ويعلّم، ويحمي، ويبتكر، وهو نفسه مهدَّد في رزقه ومكانته وثقته بنفسه؟
قالها الأستاذ بوضوح:
«القضية لم تعد قضيتي، بل قضية رجل التعليم في المغرب.»
وهو محقّ.
لأن أي قرارٍ تعسفيٍّ من هذا النوع هو رسالةٌ لبقية الأساتذة: إما أن تكون صامتاً ومطيعاً، أو تتحمّل ثمن كرامتك.
بين “الببغاء” و”الطائر الحرّ”، كما قال، اختار هو الحرية، واختار أن يبقى صوته شاهداً على ما يُراد طمسه.
من أراد إصلاح التعليم فعلاً، فليبدأ من رجل التعليم، من كرامته، من صوته، من حمايته، لا من معاقبته.
فالإصلاح لا يُختزل في المناهج والشعارات، بل في احترام الإنسان الذي يُدرّسها.
الأستاذ ليس خصماً للدولة، بل شريكها الأول في بناء الوعي. القسم ليس قفصاً، ورجل التعليم ليس متَّهماً.
هو منارةٌ أُطفئت عمداً، ومتى أُعيد إليها الضوء، أُعيد للمغرب نوره.
في هذا الوطن، ما زال الضوء يُوقَف… حين يفضح العتمة.
