سلا لم تسقط في الفوضى العمرانية بالصدفة، بل سقطت بالتوقيع. مدينة على ضفة التاريخ، كانت يوماً مهد الزوايا والعلم والتجارة، ثم تحولت في عهد قريب إلى مختبر لبيع المرافق العمومية بالمتر المربع. هنا، لا ينهار العمران بسبب زلزال طبيعي، بل بسبب زلزال إداري وقع بين التوقيع والختم.

في قلب الحكاية اسمان يعرفهما السلاويون جيداً: نور الدين الأزرق، الرئيس الأسبق للجماعة الحضرية لسلا، وجامع المعتصم، نائبه الأول ورئيس مقاطعة باب لمريسة لاحقاً.

تحالف الرجلان في ملف التعمير، فحوّلا القانون إلى ورق يُطوى حسب المصلحة، والتصميم إلى دفتر شيكات مفتوح للمقربين. ومن هنا بدأت فصول واحدة من أجرأ ملفات الفساد العمراني التي عرفتها المدينة.

تصميم التهيئة لباب لمريسة كان وثيقة تنظيمية واضحة تحدد أراضي مخصصة لمراكز شرطة وقباضات ومدارس وملاعب ومراكز صحية.

لكن الوثائق التي حصلت عليها Crash Siyasi تكشف أن تلك الأراضي صارت مشاريع خاصة، بقرارات موقعة من الأزرق وبتزكية من المعتصم.

مركز الشرطة تحوّل إلى عمارة، القباضة صارت رخصة استثمار، المدرسة إلى تجزئة سكنية، والملعب إلى إقامات فاخرة. القاعدة كانت بسيطة: كل ما هو عمومي يُباع، وكل ما هو خاص يُشرعن. وهكذا قفزت القيمة العقارية للأراضي من 27 مليار سنتيم إلى أكثر من 74 مليار، بينما خرجت الجماعة كما دخلت: بصفر درهم.

في المدينة العتيقة، وقع ما يشبه الانفجار. أكثر من 600 “رخصة إصلاح” وُقعت من طرف الأزرق تحولت عملياً إلى رخص بناء كاملة فوق السطوح وداخل المساكن.

المقاهي والحمّامات والمخابز شُيّدت في مناطق محمية قرب الأسوار التاريخية دون أي موافقة من مفتشية الآثار. القوانين 90-12 و90-25 و18-00 وُضعت على الرف، بينما الإسمنت كان يتكلم. هكذا تمت هندسة الفوضى باسم التعمير، وصارت المدينة التاريخية مختبراً للخرق المنظم.

لكن “المستقبل” كان المشروع الذي كشف كيف يُكتب الغش بلغة الأرقام. التصميم الأصلي صادق على إقامة من طابق أرضي وثلاثة طوابق علوية تضم 176 شقة بمساحات خضراء محترمة ومواقف منظمة.

بعد التعديل، أضيف طابق رابع، اختفت المساحات الخضراء، وتحوّل القبو إلى مخزن، والممرات إلى شقق. ارتفع عدد الشقق إلى 286 بزيادة 110، وقفزت نسبة البناء من 35% إلى 54%. المقاول ربح 40 مليون درهم، والجماعة لم تربح سوى الصمت. المشروع بدا قانونياً في الشكل لكنه كان في الحقيقة عملية مضاربة عقارية موقعة بخاتم الجماعة.

أما مشروع “الأندلس” فكان النسخة المكررة من الخطأ نفسه التصميم سمح بطابقين علويين، لكن الرخصة خرجت بثلاثة. المساحة المغطاة ارتفعت بأكثر من 2000 متر مربع وعدد الشقق من 81 إلى 112، والربح الإضافي قُدر بـ14 مليون درهم دون أي مقابل للجماعة.

في “المستقبل” و“الأندلس” رُسمت خريطة جديدة للمدينة: كلما ارتفع الطابق، انخفض الضمير. كلما زادت الشقق، تقلص الفضاء العام. هكذا انتقلت سلا من تخطيط التهيئة إلى تخطيط الاغتناء.

الأخطر أن الرخص لم تتغير فقط في مضمونها، بل في تاريخها. الأزرق وقّع تصاميم معدلة بأثر رجعي تحمل نفس رقم القرار ونفس التاريخ، ثم أرسلها إلى المحافظة العقارية وشركة “ريضال” كأنها الأصلية.

فصار الطابق الخامس قانونياً، وصار التزوير “مطابقة تقنية”. الرخصة رقم 1-2001 مثلًا مُنحت لبناء عمارة من قبو وطابق أرضي وأربع طبقات، لكنها عادت سنة 2004 برقمها نفسه وتاريخها نفسه لتصبح من خمس طبقات. القبو المخصص لركن السيارات صار مخزناً، والزيادة في المساحة المغطاة أصبحت “ملاءمة عمرانية”. التزوير كان ممنهجاً ومحمياً بختمٍ رسمي.

جامع المعتصم لم يكن بعيداً عن اللعبة. بصفته النائب الأول للرئيس، وقّع شهادات السكنى والمطابقة دون أي تفويض قانوني، وسلم رخص قسمة الأراضي دون محاضر تقنية، بل تجاوز اختصاصه الترابي حين منح تراخيص لمشاريع في تابريكت وهو يرأس باب لمريسة فقط.

يوم 10 دجنبر 2004، وقّع شهادة مطابقة لمشروع غير مطابق للقانون، ويوم 27 ماي 2004 وقّع رخصة تخص أحد أعضاء حزبه، عزيز بن إبراهيم، استفاد من التزوير في الرخصة رقم 484/03 فربح 30% من الرسوم الجماعية. الجمع بين الصفة الحزبية والإدارية لم يكن تضارباً، بل تنسيقاً.

النتائج المالية كانت فاضحة: 750 رخصة منحت في عهد الأزرق، نصفها على الأقل مخالف. الجماعة خسرت ما يقارب 110.580 درهماً عن كل رخصة، والضرائب على الأراضي غير المبنية تم إعفاؤها بقرارات غير قانونية. مجموع الأرباح الإضافية للمشاريع المشبوهة بلغ 54 مليون درهم موثقة، في حين ضاع المال العام بين لجان صامتة ومكاتب مغلقة.

ما جرى في سلا لم يكن فساداً عمرانياً فقط، بل منظومة لتطويع القانون. كل شيء يبدو شرعياً: توقيعات، أختام، محاضر.

لكن ما تحت الورق مجرد طبقات من الإسمنت الإداري لإخفاء الجريمة. القانون صار ديكوراً. التوجيهات الملكية كانت واضحة حين قال الملك: “كي لا يتم تحريف الاختصاصات وتحويل الاستحقاقات إلى أداة زبونية وانتخابوية، بمنح رخص غير قانونية أو التشجيع الضمني للسكن غير اللائق.” لكن في سلا، الترجمة كانت مختلفة: الرخص تُمنح بالقرابة، والمشاريع تُبنى على الولاء لا على الخرائط.

المدينة التي كانت رمزاً للهوية تحولت إلى رمز للمفارقة. في سلا، الخرسانة تصعد والضمير يهبط. كل طابق جديد يعلو فوق القانون، وكل توقيع يُضيف طبقة جديدة من العبث.

لم تعد القضية عن رخصة بناء، بل عن نظام محلي موازٍ، يُدير التعمير كمنجم للثروة، ويعامل المرفق العمومي كملكية خاصة.

سلا لم تبنَ بالإسمنت فقط، بل بصفقاتٍ موقعة في المكاتب، وبرخصٍ ممهورة بالأثر الرجعي، وبصمتٍ رسميٍ يساوي التواطؤ.

إنها مدينة بُنيت فوق القانون، لا تحته. في كل عمارة شاهدة على الربح، هناك وثيقة شاهدة على التزوير. وفي كل توقيع صاعد نحو الطابق الخامس، هناك ضميرٌ نازلٌ نحو الطابق السفلي.

في سلا، لا أحد يُسأل عمّن بنى فوق القانون، ولا من وقّع تحته. المدينة تكبر بالحجارة، وتصغر بالمعنى. الخرسانة تتكاثر، لكن العدالة لا تُرى بالعين المجردة.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version