تحوّل النقاش داخل البرلمان المغربي إلى لحظة سياسية لافتة، بعدما قدّمت برلمانية مداخلة مطوّلة ومحمّلة بأسئلة دقيقة وحرجة وُجِّهت مباشرة إلى وزير العدل عبد اللطيف وهبي. لم يكن الخطاب تقنياً أو بروتوكولياً، بل أشبه بمرآة عاكسة لتوترات المرحلة وأسئلتها الكبرى: الإصلاح، الثقة، والعدالة الاجتماعية.

بدأت البرلمانية مساءلتها بسؤال واضح ومباشر حول مصير مجموعة القانون الجنائي، وبالأخص قانون الإثراء غير المشروع، متسائلةً عن مدى قدرة الحكومة وإرادتها الحقيقية لتنفيذ هذا الإصلاح المنتظر، أم أن اعتبارات صامتة تعرقل مساره.

لكن التحوّل الأكبر في الجلسة جاء حين وصف وزير العدل بعض مظاهر الفساد بأنها “انطباعية”. هنا استحضرت البرلمانية ملفات ووقائع مسندة بأرقام وتقارير رسمية: 17 مليار سنتيم سبق للوزير نفسه أن تحدث عنها، صفقات التحلية والطاقة، تضارب المصالح، والدوائر الاقتصادية الضيقة التي تتكرر داخلها الامتيازات. ثم قالت جملةً التقطتها القاعة بكثير من الانتباه:

“والحمد لله… خيرُنا ما يديهِ غيرُنا. فهل هذا أيضاً فسادٌ انطباعي؟”

بهذه العبارة، وضعت البرلمانية النقاش في إطاره الحقيقي: الشعور العام بأن مسارات الاستفادة الاقتصادية لا تتغير، وأن الفرص الكبيرة تظل حكراً على جهات بعينها مهما تبدّلت السياقات السياسية.

وانتقلت المداخلة إلى تحليل الاحتجاجات التي قادها ما يُعرف بـ“جيل Z”، معتبرة أن هذه الحركة لم تكن تعبيراً عابراً، بل نتيجة مباشرة لفوارق اجتماعية تتسع، وانكماش طبقة وسطى كانت لعقود عماد التوازن الاجتماعي. وأكدت أن التعامل مع هذه الاحتجاجات افتقر إلى الحكمة التي ميّزت المغرب خلال الربيع العربي سنة 2011، حين تم احتواء غضب أكبر بكثير.

وأضافت أن جزءاً من سوء الفهم بين الدولة والشباب راجع إلى غياب قنوات التواصل الفعّال، مستشهدة بما قالته إحدى السيدات من قلب الشارع:
“في اليوم الأول خرج شباب متعلمون… لو تم احتضانهم، لما خرج الذين يكسرون.”

وخلال المداخلة، حذّرت البرلمانية من تأثير التضييق على الحريات والصحافة، مؤكدة أن إغلاق المجال العام لا يؤدي إلى الاستقرار، بل يراكم الاحتقان، ويدفع كثيراً من الشباب إلى البحث عن الأمل خارج الحدود، حتى ولو عبر البحر.

ولم تتوقف عند هذا الحد، بل استعادت مواقف الوزير نفسه عندما كان معارضاً لاستقلال النيابة العامة، معتبرة أن التجربة التي عاشها اليوم وزيراً للعدل تمنحه فرصة لمراجعة تلك المواقف من زاوية جديدة. وقالت له بنبرة واضحة:
“نريد رأياً صريحاً. هل غيّرت التجربة قناعاتكم؟ أم أن الواقع هو الذي فرض مقاربة مختلفة؟”

ولاحظت البرلمانية في كلمته نبرة رجل يستعد لتسليم المشعل، خصوصاً حين قال: “كان الله في عون الوزير الذي سيأتي بعدي.”

ورغم إشادتها بالعمل التشريعي الذي نجحت الوزارة في تمريره، خصوصاً في تجاوز بعض حالات التعثر السابقة، إلا أنها انتقدت السرعة التي أُقِرّ بها قانون العقوبات البديلة، معتبرة أن الإصلاح يفقد جدواه إذا لم تُهَيّأ له الأرضية المؤسساتية والتنظيمية اللازمة.

وفي ما يتعلق بمصاريف التقاضي، قالت البرلمانية إن الحديث عن “مجانية العدالة” يتناقض مع الواقع، إذ يجد المواطن نفسه مطالباً بأداء مبالغ مرتفعة عند ولوج القضاء، مما يجعل العدالة امتيازاً مالياً لا حقاً متاحاً للجميع.

وفي ختام خطابها، قدّمت البرلمانية خلاصة هادئة ولكن حاسمة:

“الفساد ليس انطباعاً… بل واقع تؤكده الأرقام والتقارير. والإصلاح لا يُقاس بما يُقال، بل بما يُنجَز فعلياً على الأرض.”

بهذا، تحوّلت تلك الجلسة إلى لحظة سياسية تعكس التحديات الكبرى التي تواجه المغرب: إصلاح النصوص، بناء الثقة، وتحصين العدالة من الانتقائية. وقد بدا واضحاً أن مشروع الدولة اليوم لا يحتاج فقط إلى قوانين جديدة، بل إلى رؤية جديدة تُعيد ترتيب العلاقة بين المؤسسات والمجتمع.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version