لم يكن الصيف بالنسبة لمغاربة العالم يومًا مجرد عطلة عابرة أو مناسبة سياحية تقليدية، بل هو طقس وجداني، موسمُ لقاءٍ بالوطن، وتجديد لروابط الانتماء، وفرصة لملامسة الأرض التي تظل محفورة في القلب رغم المسافات.
غير أن صيف هذا العام كسر هذا العرف العاطفي. آلاف من مغاربة المهجر قرروا تأجيل عودتهم أو العدول عنها، ليس لأن الشوق خَفَت، ولكن لأن الواقع صار طاردًا، بل ومؤلمًا.
الأسعار بلغت مستويات غير مسبوقة، وتذاكر الطيران وصلت عتبة العبث، والإقامة في المغرب أصبحت مغامرة مالية محفوفة بالإرهاق، لا سيما لأسر تضم أطفالًا وزيارات متعددة.
ومع تصاعد هذا الإحساس بالغلاء والخذلان، لم يجد المواطنون بالخارج، وهم الشريان الذي يضخ الحياة في شرايين الاقتصاد المغربي، من يُصغي إليهم أو يُعبّر عن تفهّمه لمعاناتهم.
وزارة السياحة، الجهة المعنية بشكل مباشر، فضّلت الانخراط في خطاب إنشائي تسويقي، مُكتفية بمنشورات مبهجة عن الأرقام القياسية التي حققتها السياحة في النصف الأول من السنة.
لم نسمع منها تصريحًا واحدًا يُشير إلى معاناة الجالية، أو رغبة في التفاعل مع سيل التدوينات والمنشورات التي غزت مواقع التواصل، والتي عبّرت بصراحة جارحة عن الإحباط والاستياء من الوضع.
الخطير في الأمر ليس فقط الصمت، بل ما يُفهم منه: التقليل من شأن الجالية، أو اعتبارها مجرد وسيلة لتغذية ميزان الأداءات بالعملة الصعبة.
وهذا، في حد ذاته، إساءة رمزية بالغة، تنمّ عن رؤية ضيقة لدور مغاربة المهجر، واختزال لعلاقتهم بالوطن في بعدها المالي فقط.
لا يمكن إنكار أن الجالية المغربية، على مدار العقود، لعبت أدوارًا محورية في دعم الاقتصاد الوطني، سواء من خلال التحويلات المالية التي تجاوزت 100 مليار درهم، أو عبر استثماراتهم في العقار والخدمات، أو حتى من خلال تحريك عجلة الاستهلاك خلال الصيف.
ومع ذلك، ما إن أتى وقت السؤال عن المقابل، حتى بدا وكأن الدولة قد نسيت من كان سندها في أحلك الأزمات.
أين هي الإجراءات الاستثنائية لدعم العودة؟
أين التنسيق مع شركات الطيران لتخفيض الأسعار؟
أين المبادرات الرمزية، ولو في حدّها الأدنى، للتعبير عن التقدير والاهتمام؟
بل أين هو مجرد الاعتراف بأن شيئًا ما لا يسير على ما يُرام؟
لا شيء من ذلك حصل.
بل على العكس، المشهد اتّخذ منحىً خطيرًا: وزارة تحتفل، ومواطنون يشتكون، وصمت رسمي يُشيح بوجهه عمّا يحدث، وكأن العلاقة بين الدولة ومواطنيها أصبحت علاقة حسابية باردة، تُقاس بالأرقام فقط، لا بالعواطف، ولا بالمسؤولية السياسية.
إذا أردنا فهم هذا الإهمال المتكرّر، فعلينا الرجوع إلى المنطق الذي يُدير به صُنّاع القرار السياسات العمومية في المغرب.
لقد اختارت الدولة، خلال العقدين الأخيرين، أن تُراهن على السوق وحده كآلية تنظيم، فانخرطت في تحرير الأسعار، وتخلّت عن ضبط القطاعات الحسّاسة كالنقل الجوي والخدمات السياحية.
وفي المقابل، أغدقت الدعم على كبريات الشركات، خاصة خلال أزمة الجائحة، دون أن تربط ذلك بأية شروط اجتماعية مُلزِمة تُراعي القدرة الشرائية للمغاربة، سواء داخل الوطن أو خارجه.
النتيجة اليوم واضحة: دولة تنتج أزمات ثم تتفرّج عليها من بعيد.
ومواطنون يشعرون أن ولاءهم للوطن لا يُقابَل إلا بالصمت والتغافل.
الجالية المغربية لا تحتج في الشوارع، ولا تُضرب عن العمل، ولا تصدر بلاغات حزبية.
لكنها حين تقرر ألّا تعود… فذلك احتجاج من نوع خاص.
احتجاج هادئ، عميق، وقاسٍ في رمزيته.
هذا الغياب الجماعي لا يُمكن أن يُقرأ فقط كأثر جانبي لغلاء الأسعار، بل هو تجلٍّ لحالة من الانفصال الرمزي، تتسع عامًا بعد عام، بسبب سوء تدبير العلاقة بين الدولة ومواطنيها في الخارج.
لقد كان من الممكن إنقاذ هذا الصيف، لو توفرت الإرادة السياسية:
اتفاقيات مع شركات الطيران لتخفيض التذاكر
حملات وطنية تحفيزية لاحتضان الجالية
خطاب رسمي يحترم حضورهم الرمزي والاقتصادي
لكن لا شيء من هذا حصل.
وحدها النشرات الوزارية كانت حاضرة، تُخبرنا بأن “الصيف بخير”، و”القطاع السياحي ينتعش”، دون أن تكلّف نفسها النظر إلى أولئك الذين قرروا هذا العام أن لا يعودوا… لا لشيء، سوى لأنهم لم يعودوا يشعرون أن حضورهم مهم.
الخاتمة :
الجالية كتبت رسائلها.
لا على ورق، بل على جدران الذاكرة.
أما الحكومة، فقد مزّقت تلك الرسائل بمنشورات تتحدّث عن “النجاح”، وكأن الحب لا يعنيها، وكأن الانتماء عابر، وكأن الوطن سلعة موسمية.
وحين يُصبح الوطن باهظًا… تبدأ الهجرة الثالثة:
هجرة من الذاكرة، من الحنين، من المعنى.