جاء خطاب جلالة الملك محمد السادس بمناسبة عيد العرش لسنة 2025 في لحظة دقيقة من مسار المغرب التنموي والسياسي، اتسمت بتراكم الإنجازات في مجالات متعددة، مقابل استمرار التحديات الاجتماعية والمجالية. وقد تميز الخطاب هذه السنة بنبرة تقويمية واضحة، تجمع بين الاعتزاز بما تحقق، والدعوة إلى تجاوز ما تبقى من اختلالات بنيوية، خصوصًا في العالم القروي والمجالات المهمشة.

أولاً: التنمية الاقتصادية في صلب الخطاب الملكي

ركز الخطاب على إبراز ما تحقق من مكاسب اقتصادية خلال السنوات الأخيرة، رغم الظروف الدولية الصعبة، من جفاف وأزمات عالمية. واعتبر جلالة الملك أن المغرب يشهد “نهضة صناعية غير مسبوقة”، مستدلًا بتضاعف قيمة الصادرات الصناعية منذ سنة 2014، وتحديدًا في قطاعات السيارات، الطيران، الطاقات المتجددة، والصناعات الغذائية.

ويبدو أن التركيز على الاقتصاد يعكس رهانا استراتيجيا لجعل المغرب ضمن الدول الصاعدة، من خلال تحقيق تنمية مستدامة قائمة على التنويع الاقتصادي والاندماج في سلاسل الإنتاج العالمية.

ثانيًا: البعد الاجتماعي… حضور قوي لمفهوم العدالة المجالية

رغم الإشادة بالإنجازات الاقتصادية، لم يخف الخطاب القلق من ضعف تأثير هذه الإنجازات على معيش المواطن اليومي، خصوصًا في المناطق القروية والهامشية. فقد أكد جلالة الملك بوضوح أن التنمية لا تُقاس فقط بمؤشرات النمو والاستثمار، بل بمدى انعكاسها على جودة حياة المواطنين.

من هذا المنطلق، دعا جلالته إلى الانتقال من “مقاربات تقليدية للتنمية الاجتماعية” نحو رؤية “تنمية مجالية مندمجة”، تقوم على تفعيل الجهوية المتقدمة، وتثمين الخصوصيات المحلية، وتعزيز التضامن بين الجهات.

وتُعد هذه الدعوة مؤشرا على تحوّل مفاهيمي في السياسات العمومية، ينقلها من مقاربات رأسية مركزية إلى أخرى أفقية، تشاركية، تعتمد على القرب والنجاعة الترابية.

ثالثًا: العناية بالموارد المائية والتخطيط المستدام

من بين أبرز الإشارات الاستراتيجية في الخطاب، تلك المتعلقة بضرورة اعتماد “تدبير استباقي ومستدام للموارد المائية”، في ظل تصاعد الإجهاد المائي وتحديات التغير المناخي. وتأتي هذه الفقرة ضمن رؤية شمولية تُدرج الأمن المائي كجزء من الأمن القومي.

الملك شدد أيضًا على إطلاق مشاريع كبرى تتعلق بالسيادة الغذائية والطاقة المتجددة، ما يعكس التزامًا واضحًا بتحقيق اكتفاء ذاتي تدريجي، يخفف من حدة التبعية للخارج.

رابعًا: التأكيد على الاستحقاقات الانتخابية واحترام المنظومة الدستورية

في رسالة دقيقة وموجهة، أشار جلالة الملك إلى أهمية التحضير الجيد للانتخابات التشريعية المقبلة (2026)، من خلال اعتماد المنظومة القانونية المؤطرة لها قبل نهاية السنة الجارية. وتُعد هذه الإشارة دعوة واضحة لضمان شفافية ونزاهة العملية الانتخابية، واحترام الأجندة الديمقراطية.

كما أن فتح المشاورات السياسية بين وزارة الداخلية ومختلف الفاعلين السياسيين يعكس حرص المؤسسة الملكية على إشراك الأحزاب ومؤسسات الوساطة في بلورة قواعد الاستحقاقات المقبلة.

خامسًا: العلاقات مع الجزائر… الاستمرارية في مد اليد

أكد الخطاب مرة أخرى، على ثبات موقف المغرب من العلاقة مع الجزائر، حيث جدد جلالة الملك وصف الشعب الجزائري بـ”الشعب الشقيق”، ودعا إلى “حوار صريح ومسؤول”. وهذا الخطاب يحمل رسائل سياسية قوية إلى الداخل الجزائري، تُفند الاتهامات بوجود نوايا عدائية من طرف المغرب، وتؤكد حرص المملكة على وحدة الشعوب المغاربية.

سادسًا: الصحراء المغربية والدعم الدولي لمبادرة الحكم الذاتي

في الجانب المتعلق بقضية الصحراء، عبر جلالة الملك عن اعتزازه بالدعم المتزايد لمبادرة الحكم الذاتي كحل وحيد للنزاع الإقليمي، مشيرًا إلى انضمام دول جديدة إلى قائمة المؤيدين، من بينها المملكة المتحدة والبرتغال. وقد اعتبر جلالته أن المبادرة المغربية تحفظ ماء وجه جميع الأطراف، في إطار تسوية توافقية وواقعية.

هذه الرسالة تأتي في سياق التطورات الدبلوماسية التي يعرفها الملف، حيث نجح المغرب في إعادة توجيه بوصلة التعاطي الدولي مع قضية الصحراء، من خلال منطق الشرعية والمصداقية.

خاتمة

يمكن اعتبار خطاب العرش لسنة 2025 بمثابة محطة تقويمية مفصلية، حملت معاني متعددة: تثمين للمنجزات، توجيه واضح للإصلاحات، وتحذير غير مباشر من التباطؤ أو التقصير. فالخطاب لم يكن خطاب إنجازات فقط، بل خطاب مسؤولية وتعبئة، يستشرف مغربًا أكثر عدالة، وتوازنًا، واندماجًا في محيطه الإقليمي والدولي.

ولعل الرسالة الجوهرية للخطاب تتلخص في جملة واحدة:
التنمية ليست رفاهًا اقتصاديًا، بل عدالة مجالية واجتماعية تحق للمغاربة حيثما وُجدوا.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version