في هدوء التقاليد السنوية التي تطبع تقديم التقرير أمام الملك، لم يكن عرض عبد اللطيف الجواهري، والي بنك المغرب، مجرد تمرين تقني في استعراض المؤشرات الماكرو-اقتصادية، بل بدا – لمن أصغى جيداً – أنه وثيقة محمّلة بإشارات دقيقة ورسائل بين السطور، تحاكي الواقع المالي للدولة، وتُسائل هشاشة الطموح الاجتماعي في ظل محدودية الموارد.

ففي معرض تناوله لبرامج الحماية الاجتماعية، تطرّق التقرير إلى الإعانة المالية المباشرة التي اعتمدتها الحكومة لفائدة الفئات الهشة، والتي تبلغ 500 درهم شهرياً، واصفاً إياها بـ”الجهد العمومي الكبير” الذي يضع ضغطاً إضافياً على الميزانية، خاصة مع بلوغ كلفتها السنوية أزيد من 24 مليار درهم سنة 2024.

وبلهجة تقنية محايدة، لم يُخف بنك المغرب الحاجة إلى مراجعة معايير الاستحقاق وتحسين فعالية الاستهداف، مؤكداً أن استدامة هذا الورش رهينة بوجود آليات تمويل منسجمة ومستقرة، تضمن استمراريته دون أن تتحوّل الإعانة إلى نمط معيش دائم يُغيب الحافز على الإدماج المهني.

لكن خلف هذا الطرح “الإداري”، تُفهم رسائل الجواهري على نحو آخر: فالدولة الاجتماعية لا تُبنى بالنوايا، بل بالتوازن المالي، والإنفاق التضامني يحتاج إلى أعمدة من الإنتاج والعدالة الجبائية وليس فقط إلى تحويلات نقدية.

وإذا كان التقرير قد تحاشى التصريح، فإن مصادر إعلامية مواكبة أبرزت أن الوضع المالي للمملكة بلغ عتبة دقيقة، حيث يُقدَّر نصيب كل مواطن مغربي من الدين العمومي بحوالي 36 ألف درهم، نتيجة تراكم المديونية الداخلية والخارجية، في وقت تُواصل فيه الحكومة إطلاق أوراش اجتماعية ذات كلفة عالية، دون أن توضح للرأي العام كيف ستُمَوَّل هذه البرامج، وبأي سقف زمني، وبأي ضمانات للاستمرارية.

وفي موازاة هذه المعطيات، وجّه التقرير إشارة واضحة إلى الجمود الذي يطبع ورش إصلاح التقاعد منذ ما يفوق عقداً من الزمن، مؤكداً أن الكلفة الاجتماعية لهذا التأخير ترتفع عامًا بعد آخر، بينما تزداد صعوبة الإصلاح كلما تأخر، سيما وأن الزيادات الأخيرة في الأجور كانت فرصة مناسبة للتشاور والبداية.

التقرير لم يدق ناقوس الخطر، لكنه تركه مائلاً.
لم يُصدر إنذارًا، لكنه وضع المعادلات أمام من يملك القرار السياسي والمالي: موارد محدودة، نفقات اجتماعية متزايدة، ديون متصاعدة، وورش إصلاحية مؤجلة.

فرغم أن الجواهري لم يُصعّد لغته، ولم يوجّه اللوم مباشرة للحكومة، إلا أن صمته كان أبلغ من التصريح. لقد قال ما يكفي… وترك ما هو أهم لفطنة من ينبغي عليه أن يسمع.

وما لم يقله الجواهري… هو بالضبط ما كان ينبغي على الحكومة أن تسمعه.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version