شكل خطاب العرش الأخير لحظة فارقة في المسار السياسي المغربي، حيث تحدث جلالة الملك محمد السادس بصراحة عن “مغرب يسير بسرعتين”، واضعًا بذلك إصبعه على جرح الفوارق التنموية والاجتماعية، ومشيرًا ضمنًا إلى أن هناك قطاعات لم تقم بما يجب، وأن ثقة المواطن بدأت تتآكل أمام ضعف السياسات العمومية.

لكن المفارقة أن التفاعل الحكومي مع الخطاب كان باهتًا، لا يرقى لحجم الإشارة الملكية. بل إن رئيس الحكومة نفسه، عزيز أخنوش، غاب عن اجتماعين سياسيين بارزين ترأسهما وزير الداخلية مع الأحزاب، ما اعتُبر لدى عدد من المحللين مؤشرًا على تراجع رمزي لموقع رئاسة الحكومة.

التحالف الثلاثي الذي يقود الحكومة، والمكوّن من أحزاب التجمع الوطني للأحرار، الأصالة والمعاصرة، والاستقلال، جاء عقب حملة انتخابية غير مسبوقة من حيث كثافة المال السياسي والإشهار المدفوع.

ورغم الأغلبية المريحة، فإن هذا التحالف لم يُنتج لحد الساعة مشروعًا مجتمعيًا واضحًا، بل تميّز بالتماهي التام مع السلطة التنفيذية، والتسليم التام بالبيروقراطية الاقتصادية، وذوبان الخطاب الحزبي في بلاغات “التوجيهات السامية”، دون مبادرات مستقلة أو جرأة في الطرح.

تم اختزالها في مجرد تحالف عددي بين أحزاب جمعتها الضرورة، وفرّقتها الرؤية. تحالف الثلاثة (الأحرار، الأصالة والمعاصرة، الاستقلال) لم يُبْنَ على تعاقد سياسي، بل على تقاطع مصالح انتخابية. ومع أول أزمة، اختفى الخطاب، وغاب المشروع، وبقيت الأغلبية كهيكل بلا روح.

لكن الأدهى من ذلك، أن الحكومة، في تركيبتها وتوجهاتها، بدت وكأنها مفصّلة على مقاس السوق، لا على مقاس الوطن. وُزعت المناصب على خبراء في الربح لا في الخدمة العمومية، وتُدبّر الأزمات بعقلية المقاولة لا بروح الدولة. اختلط المال بالقرار، وتشابكت المصالح بين من يُشرّع ومن يستثمر، وبين من يُنظّم السوق… ومن يملكه.

السياسة حين تفقد بعدها الاجتماعي، تتحول إلى ديكور دستوري لتدبير اقتصادي متوحش. والمواطن، في كل ذلك، لا يرى سوى ارتفاع الأسعار، واتساع الفجوة، وغياب الموقف. أما الحكومة، فبقيت وفية لتحالفها… لا لمواطنيها.

منذ توليه وزارة الفلاحة لأزيد من 15 عامًا، حمل عزيز أخنوش مشروع “المخطط الأخضر” على كتفيه كرمز لتحديث القطاع. لكنّ نتائج اليوم لا تعكس ما وُعِد به: أزمة عطش حادة، تراجع الإنتاج الغذائي، وهيمنة الزراعات التصديرية على حساب السيادة الغذائية.

الأولوية وُجهت للأسواق الخارجية، لا لأمن المواطنين الغذائي. وتم توجيه المياه والموارد لدعم ضيعات كبار الفلاحين، بينما تُركت المناطق الجبلية والهشة لقدرها.

لم يكن عزيز أخنوش مجرد وزير، بل رجل أعمال نافذ، يملك شبكات مصالح اقتصادية تمتد من المحروقات إلى الأسمدة، من الاستيراد إلى التوزيع. وعندما انتقل إلى رئاسة الحكومة، لم تُفكك هذه العلاقات… بل تداخلت أكثر.

الحكومة اليوم تُتّهم ضمنيًا بكونها تُفصّل قراراتها على مقاس السوق، وليس على مقاس الحاجات الاجتماعية. فهل ما نعيشه اليوم من غلاء، واحتكار، وتضارب مصالح، وتضخم في الثروات… مجرد صدفة؟ أم نتيجة مباشرة لهذا التداخل البنيوي بين السلطة والثروة؟

في الآونة الأخيرة، بدأت تُتداول داخل الأوساط الإعلامية والسياسية تسريبات غير رسمية تفيد بتضخم ثروات عدد من أعضاء الحكومة، خلال فترة وجيزة. وفي غياب أي تتبع مؤسساتي علني لمراقبة تطور الثروة، يتنامى الإحساس الشعبي بأن المال العام أصبح نافذة للاغتناء السياسي الصامت.

وإذا كانت الحكومة تُرفع فيها شعارات الحكامة والشفافية، فمن حق المواطنين أن يعرفوا: كم كانت ثروات الوزراء قبل الولاية؟ وكم صارت؟ ومن يراقب من؟

في مقابل انكماش الحكومة، يُسجل المراقبون غيابًا فعليًا لدور المعارضة. فباستثناء تصريحات موسمية، لم تُقدم الكتل المعارضة بدائل واضحة أو مرافعات قوية داخل البرلمان، وهو ما عمّق من أزمة الثقة في العمل الحزبي ككل.

كما سُجل غياب النخب الفكرية، والمنابر الإعلامية المستقلة، عن مساءلة الوضع الحالي بعمق. هل هو خوف؟ أم تواطؤ ناعم؟ أم اقتناع ضمني بأن لا بديل يُمكنه أن يشتغل خارج منطق السوق؟

الخلاصة:

اليوم، ونحن على مشارف منتصف الولاية، يطرح الشارع سؤالًا وجوديًا: هل نحن أمام حكومة تُدبّر الوطن؟ أم تُدبّر مصالحها؟
وهل ما تبقّى من الزمن التشريعي كافٍ لإعادة التوجيه؟ أم أن التحالف الثلاثي يعيش أيامه الرمزية الأخيرة؟

أيا كانت الأجوبة، فإن ما هو أكيد أن ما بعد 2021 لا يجب أن يُختزل في الانتخابات فقط… بل في المراجعة الشاملة لمسار سياسي سقط في التحالف، وركّب حكومة على مقاس السوق، بدل أن يفتح أفقًا لمغرب اجتماعي عادل، كما أراد الملك في خطابه.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version