أعلنت الحكومة، ضمن التوجهات العامة لمشروع قانون المالية لسنة 2026، عن حزمة واسعة من الإصلاحات تمتد على سنوات، تشمل قطاعات المؤسسات العمومية، الإدارة الترابية، العدالة، الثقافة، والمالية العمومية.
الرؤية المعلنة تبدو وكأنها تُرسم بعناية على خط زمني طويل المدى، لكن قراءة أعمق لمسار الإصلاحات في التجربة المغربية تكشف أن التنفيذ غالبًا ما يُدار بإيقاع المواعيد الانتخابية وضغوط الظرفية، فيتحول التخطيط الاستراتيجي إلى مجرد أرضية لتسويق سياسي قصير النفس.
القطاع العمومي يحتل مركز هذه الخطة، باعتباره الأداة التي يفترض أن تنسق السياسات العمومية وتعبئ الموارد لخدمة التنمية الشاملة.
الحكومة تتحدث عن “قطاع عمومي عصري” و”إدارة ترابية فعّالة”، وهي شعارات جذابة، لكن التجارب السابقة مع إعادة هيكلة المؤسسات والمقاولات العمومية تُظهر أن غياب الشفافية وضعف المراقبة يفتح الباب أمام إعادة تموقع فئات محدودة من الفاعلين الاقتصاديين، بدل أن يكون الإصلاح فرصة لتحسين النجاعة وتعزيز العدالة الاقتصادية.
هنا يكمن جوهر النقد: الرؤية قد تكون طويلة الأمد، لكن الاستفادة قد تظل محصورة في آجال قصيرة تخدم توازنات سياسية أكثر مما تخدم التنمية.
في الإدارة الترابية، تضع الحكومة الرقمنة وتبسيط المساطر وتعميم الشباك الموحد كأعمدة رئيسية. على الورق، هذا المسار يوحي بانتقال نحو إدارة ذكية، لكن على أرض الواقع، الرقمنة وحدها لا تكفي لتغيير جوهر الأداء إذا ظلت البيروقراطية والعلاقات الشخصية تحكم مسار الملفات.
الإصلاح الحقيقي يحتاج إلى تغيير في الثقافة الإدارية وتوزيع السلطات محليًا، وإلا ستظل المبادرات الكبرى تُطلق قبيل محطات سياسية لخلق انطباع بالتحول، دون أن تُستكمل مساراتها في العمق.
في المجال القضائي، تتعهد الحكومة بمراجعة الخريطة القضائية، توسيع اختصاص المحاكم، وإدماج العقوبات البديلة انطلاقًا من سنة 2025.
هذه إجراءات تتطلب سنوات من التهيئة، من توفير البنية التحتية الملائمة إلى تكوين الأطر القضائية وضمان الإمكانيات المالية. لكن الخشية أن تتحول هذه الإصلاحات إلى مجرد عناوين تُدرج في التقارير السنوية وتُستثمر سياسيًا في ظرفيتها، بدل أن تتحول إلى منظومة مستدامة تعزز الأمن القانوني وتدعم جاذبية الاستثمار.
أما في الشق الثقافي، فيحضر ورش إدماج الأمازيغية في الإدارة العمومية، عبر توظيف 1100 موظف استقبال وإدراجها في الهوية البصرية للمؤسسات. المشروع يحمل قيمة رمزية وحضارية كبيرة، لكن تاريخه يثبت أن القرارات الثقافية ذات المدى الطويل قد تُجمَّد أو تُبطأ وتيرتها عندما تتغير الأولويات السياسية أو تواجه المالية العمومية ضغوطًا ظرفية.
في ملف المالية العمومية، تضع الحكومة إصلاح القانون التنظيمي لقانون المالية كأداة لضمان التخطيط متعدد السنوات وتحقيق الانسجام بين السياسات العمومية.
من حيث المبدأ، هذه خطوة أساسية لأي اقتصاد يسعى إلى الاستقرار والتنافسية. لكن في الممارسة، تُظهر التجربة أن التخطيط المالي طويل المدى يظل هشًا أمام الضغوط الانتخابية والمطالب الاجتماعية الفورية، ما يؤدي إلى تعديل المسارات وتغيير الأولويات، أحيانًا بشكل يفرغ الإصلاح من مضمونه الاستراتيجي.
وبين الخطط التي تُرسم على مدى سنوات، والتنفيذ الذي يسير بمنطق الانتخابات، تظل الفجوة قائمة. وعندما يتحول جزء كبير من الإصلاحات إلى أوراق عرض تُقدَّم في المؤتمرات والمنتديات، بدل أن تنعكس مباشرة على حياة المواطنين والنسيج الاقتصادي، تصبح الدولة في حاجة إلى مراجعة أولوياتها: هل الغاية تحقيق التحول البنيوي، أم إدارة الزمن السياسي؟