لم يعد ورش إصلاح أنظمة التقاعد في المغرب ملفًا عاديًا يُفتح ويُغلق حسب أجندات الحكومات المتعاقبة، بل صار اليوم قضية استراتيجية تمس صميم الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي. فالتأخر في اتخاذ قرارات حاسمة، أو الاكتفاء بترقيع ظرفي، لم يعد رفاهية زمنية متاحة، لأن عقارب الساعة تتحرك في اتجاه واحد، وكلفة التأجيل تتضاعف على حساب فئة الأجراء، التي وجدت نفسها تتحمل وحدها عبء الإصلاحات المؤجلة منذ سنوات.
تحذيرات الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، حين وصفت الوضع بـ”القنبلة الاجتماعية”، لم تكن مجرد مبالغة خطابية أو ورقة ضغط نقابية، بل تلخيص دقيق لمعادلة معقدة: إذا جرى المساس بحقوق المتقاعدين أو تقليص مكاسبهم دون ضمان بدائل لائقة، فإن السلم الاجتماعي سيكون أول الخاسرين، وسيدفع المغرب ثمن ذلك في استقراره الداخلي وثقة مواطنيه في المؤسسات.
ورغم أن الحكومة تؤكد، في تصريحاتها الرسمية، أن ورش الإصلاح الشامل يسير على نهج “التدرج” وأن “مشاورات واسعة” تُجرى مع الفرقاء الاجتماعيين، إلا أن أصواتًا وازنة من الخبراء الاقتصاديين تحذر من أن الوقت لم يعد في صالح أحد، وأن الرهان على إطالة النقاش قد يكون أخطر من إعلان قرارات صعبة اليوم. فالتأجيل، مهما كانت مبرراته، لا يؤدي إلا إلى رفع الفاتورة المؤجلة، لتصبح أكثر إيلامًا حين يحين السداد.
التقارير الدولية تزيد الصورة وضوحًا – وربما قتامة – إذ تشير معطيات البنك الدولي ومنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية إلى أن المغرب سيواجه، ابتداءً من 2030، ضغطًا ديمغرافيًا غير مسبوق، حيث سيتقلص عدد المساهمين مقابل المتقاعدين إلى مستوى قد يجعل كل عامل ممولًا لمعاش أكثر من شخص واحد. وهو سيناريو، إذا تحقق، قد لا تصمد أمامه أي احتياطات مالية مهما كانت أرقامها اليوم مطمئنة، لأن جوهر المشكلة ليس في حجم الاحتياطي، بل في توازن المعادلة بين الداخل والخارج من صناديق التقاعد.
الأرقام الرسمية تكشف بدورها عن مفارقة حادة: احتياطات مالية كبيرة توحي، للوهلة الأولى، بأن الوضع تحت السيطرة، لكن خلف هذه الصورة الإيجابية يختبئ عجز تقني وهيكلي يتفاقم سنة بعد أخرى، وقد يقود، في غياب إصلاح حقيقي وجريء، إلى انهيار تدريجي للمنظومة.
وبين لغة التطمين الحكومية وجرس الإنذار الذي يدقه الخبراء، يقف ملايين الأجراء في منطقة رمادية، يقتطع من رواتبهم شهريًا على أمل معاش كريم، لكنهم يخشون أن يجدوا أنفسهم بعد عقود أمام تقاعد لا يكفي حتى لتغطية النفقات الأساسية من سكن وعلاج ومعيشة.
إن إصلاح التقاعد اليوم لم يعد مسألة تقنية أو مالية بحتة، بل اختبار لمدى قدرة الحكومة على موازنة الحسابات الرقمية مع الحسابات الاجتماعية، واتخاذ قرارات شجاعة تُوزع الكلفة بشكل عادل بين الدولة، والمؤسسات، والأجراء، بدل أن تظل هذه الفئة وحدها على خط النار. فالوقت، كما يقول الخبراء، لا ينتظر، والتاريخ لن يرحم من اختار شراء السلم الاجتماعي المؤقت على حساب أجيال الغد.