الباز عبدالأله
من زيت الزيتون إلى القمح والسكر، ومن اللحوم الحمراء إلى البقوليات، تتسع قائمة المواد التي أصبح المغرب يستوردها بشكل متزايد، في مشهد يناقض تماماً خطاب “الاكتفاء الذاتي” الذي ظل يزين تصريحات الوزراء وبرامج الحكومات المتعاقبة. سنة 2025 تحولت إلى محطة كاشفة لهذه المفارقة: بلد الزيتون، الذي رسخ حضوره لعقود كأحد أهم المصدرين في حوض المتوسط، يجد نفسه فجأة يشتري أكثر من 12 ألف طن من زيت الزيتون البكر من تونس وحدها، إضافة إلى شحنات معتبرة من إسبانيا واليونان.
الحكومة بررت هذا التحول بضعف الإنتاج المحلي نتيجة الجفاف وشح المياه، وأعلنت عن حصة استيراد معفاة من الرسوم الجمركية بلغت 20 ألف طن.
لكن وراء هذه التبريرات السهلة، يختبئ واقع أعمق وأشد وطأة: عقود من السياسات الفلاحية التي وجهت الاستثمارات نحو الزراعات التصديرية سريعة الربح، على حساب الزراعات الغذائية الأساسية، وكرست تركز الأراضي والموارد في أيدي فئة محدودة من كبار المستثمرين، بينما تُرك الفلاح الصغير لمصيره في مواجهة الطبيعة وتقلبات السوق وغلاء المدخلات.
المخطط الأخضر، الذي انطلق قبل أكثر من عقد، رُوّج له باعتباره قاطرة لتنمية الفلاحة المغربية، لكنه في الواقع أعاد رسم خريطة الإنتاج الزراعي على مقاس الأسواق الأوروبية والخليجية، بدل أن يضع موائد المغاربة في قلب أولوياته.
فالحقول التي كان يفترض أن تنتج القمح أو الزيتون أو الحبوب الكاملة، تحولت إلى مزارع للمنتجات التصديرية التي تدر أرباحاً سريعة بالعملة الصعبة، لكن دون أثر يذكر على الأمن الغذائي الوطني.
زيت الزيتون، الذي كان بالأمس أحد رموز السيادة الفلاحية للمغرب، أصبح اليوم نموذجاً مصغراً لفقدان السيطرة على سلة الغذاء الوطنية.
هذا المشهد يتكرر في القمح الذي نستورد أكثر من نصف حاجتنا منه، وفي البقوليات التي تملأ الأسواق القادمة من الخارج، وفي السكر الذي نعتمد في تموينه على الأسواق العالمية. النتيجة واحدة: تبعية غذائية متزايدة، وهشاشة أمام أي اضطراب في سلاسل التوريد أو تقلبات الأسعار العالمية.
الحكومة الحالية، التي تضع تغيرات المناخ كحجة جاهزة لكل عجز، تتجنب الإجابة عن السؤال الحقيقي: لماذا لم تُبنَ سياسة غذائية تضمن الاكتفاء الذاتي، وتحمي الفلاح الصغير، وتعيد التوازن بين ما يُزرع للتصدير وما يُزرع لتأمين غذاء المواطنين؟ فتح باب الاستيراد بلا قيود، وإن كان يخفف مؤقتاً من ضغط الأسعار، فإنه يدفع نحو إضعاف الإنتاج المحلي ويعرض آلاف الأسر لفقدان مصدر رزقها.
إن ما يحدث اليوم ليس أزمة ظرفية، بل نتيجة مباشرة لخيارات استراتيجية قصيرة النظر. وإذا لم يتم تصحيح المسار، فإن المغرب سيجد نفسه، بعد سنوات قليلة، في وضع يشتري فيه حتى المواد التي كان تاريخياً يفيض بها. العودة إلى الجذور ليست شعاراً رومانسياً، بل ضرورة استراتيجية: حماية أشجار الزيتون من الاندثار، دعم الحبوب والبقوليات، إعادة توجيه الدعم الفلاحي ليخدم الاستهلاك المحلي أولاً، واعتبار الأمن الغذائي جزءاً لا يتجزأ من السيادة الوطنية.
في النهاية، تبقى الحقيقة المؤلمة أن “السيادة تُباع باللتر والكيلوغرام” حين تُترك السياسات الفلاحية رهينة للأسواق الخارجية، وحين يتحول المخطط الأخضر من أداة للتنمية إلى مشروع يقطف ثماره المرة المواطن قبل غيره.