تُقاس نزاهة الدول لا بعدد المهرجانات التي تُنظمها، بل بمدى شفافية ما تنفقه باسم الثقافة.
وفي زمنٍ صارت فيه كلمة «الدعم» تُثير من الأسئلة أكثر مما تُقدّم من الأجوبة، يجد الرأي العام المغربي نفسه أمام جدلٍ يعيد طرح سؤالٍ بسيطٍ وعميق في آن: من يمول الإبداع؟ ومن يستفيد منه حقًا؟
انطلقت الشرارة من فيديو انتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ظهر فيه أحد المؤثرين المعروفين يؤكد أنه تلقّى اتصالًا من داخل ديوان وزير الثقافة محمد المهدي بنسعيد يعده بالدعم «بمجرد أن يعود إلى المغرب».
لكن بعد أيام، عاد الرجل نفسه ليصرّح بأن هناك أشخاصًا «يتلقّون دعمًا بدون وجه حق»، لتتحول القصة إلى نقاشٍ وطني حول معايير توزيع المال العمومي المخصص للإبداع، وسط مطالبٍ متزايدة بالكشف عن اللائحة الكاملة للمستفيدين من الدعم الثقافي، ليس فقط لسنة 2025، بل أيضًا خلال السنوات الأربع الماضية برمتها، بما يسمح بفهم تطور الأسماء والمشاريع ومعايير الانتقاء على مدى دورةٍ زمنيةٍ كاملة.
الجدل لم يكن مجرد عاصفةٍ رقمية، بل اختبارًا حقيقيًا لمدى التزام وزارة الثقافة، بقيادة بنسعيد، بمبدأ الشفافية.
فبينما انتظر الرأي العام مخرجاتٍ دقيقة أو تحقيقًا داخليًا يوضح الحقائق، لم تُصدر الوزارة إلى حدود الساعة أي بلاغٍ أو توضيح رسمي، تاركةً الباب مفتوحًا أمام التأويلات وموجة الأسئلة التي تتكاثر يومًا بعد يوم.
هذا الغياب في التواصل الرسمي أعطى للجدل بُعدًا أوسع، وجعل الرأي العام يتعامل مع الصمت كإشارةٍ لا تقلّ دلالة عن الكلام نفسه.
المغاربة، وهم الذين يُموّلون هذه البرامج من ضرائبهم، من حقهم أن يعرفوا من يستفيد من المال العام ولماذا.
فالدعم الثقافي ليس منحة مجاملة ولا امتيازًا شخصيًا، بل آلية يفترض أن تُنصف المبدعين الحقيقيين، لا أن تتحوّل إلى «نادي المغضوب عليهم والمرضِيّ عنهم» داخل دواليب الوزارة.
ولهذا، فإن الكشف عن اللائحة الكاملة للمستفيدين من الدعم الثقافي والفني خلال السنوات الأربع الماضية (2021 – 2025)، ومعها محاضر اللجان، ومعايير التنقيط وتوزيع الميزانيات حسب المجالات، لم يعد مطلبًا سياسيًا أو إعلاميًا، بل واجبًا دستوريًا وفقًا للفصل 27 من الدستور الذي يضمن للمواطنين الحق في الحصول على المعلومات الموجودة في حوزة الإدارات العمومية.
القضية اليوم لم تعُد حول أسماء المستفيدين فقط، بل حول مفهوم الشفافية ذاته في عهد بنسعيد.
فالثقافة لا تزدهر في بيئةٍ غامضةٍ تحكمها الولاءات أكثر من الكفاءات، ولا يمكن أن تُقنع شباب هذا البلد بقيم الإبداع وهي توزّع أموالهم بمنطق العلاقات لا الاستحقاق.
وحين يتحوّل الفنان إلى متهمٍ بتلقي امتياز، بدل أن يُعامل كمواطنٍ منتجٍ للفكر، نكون أمام أزمةٍ أخلاقيةٍ لا ماليةٍ فقط.
الشفافية ليست مجرد إجراءٍ إداري؛ إنها قيمةٌ ثقافية في جوهرها.
حين تُنشر الأرقام وتُعلَن المعايير، تستعيد المؤسسات ثقة المجتمع، وحين تُخفى، يُفتح الباب أمام الشبهات والريبة والعدمية.
ومن هنا، فإن اعتماد آليةٍ دوريةٍ لنشر تقارير مالية وفنية نصف سنوية يشكل الحد الأدنى من احترام مبدأ «ربط المسؤولية بالمحاسبة»، ويُعيد التوازن إلى العلاقة بين الفنان والدولة.
الثقافة في جوهرها ليست زينةً للدولة، بل مرآةٌ لعدالتها الرمزية.
ومن لا يُدرك أن الشفافية في تدبير المال العام هي أول عملٍ ثقافيٍّ حقيقي، فليتعلم من الشعب الذي صار اليوم أكثر وعيًا وإصرارًا على أن يعرف: من يستفيد؟ ولماذا؟
إن نشر اللائحة الكاملة للمستفيدين من الدعم الثقافي خلال الأربع سنوات الماضية سيكون أكثر من مجرد خطوةٍ إدارية؛ إنه إعلان رمزي عن ميلاد ثقافةٍ جديدة في المغرب ثقافةٍ تحترم العقل قبل العَرض، وتمنح الفن مكانته كقوةٍ أخلاقيةٍ لا كغلافٍ تجميليٍّ للسلطة.
فالإبداع لا يحتاج إلى إذنٍ من الوزير، بل إلى ثقةٍ من الوطن.
