في توقيت حساس، عادت مدن مغربية إلى الشارع مطالبة بالحق في الصحة والتعليم، رافعة شعارات بسيطة لكنها عميقة: مستشفيات مجهزة، مدارس في مستوى، وعدالة اجتماعية ملموسة.
وفي خضم هذا الغليان، خرج عبد الإله بنكيران، رئيس الحكومة الأسبق وزعيم حزب العدالة والتنمية السابق، بخطاب مطوّل أثار جدلاً داخلياً وخارجياً.
لم يكن لانتقاداته للحكومة الحالية وقع مفاجئ، لكنه هذه المرة نطق بجملة زلزلت النقاش العام: “إذا لم تكن هناك إصلاحات، فإن الربيع العربي سيعود.”
بهذا التصريح، أعاد بنكيران إلى الواجهة لحظة سياسية حساسة في تاريخ المغرب، هي مظاهرات 20 فبراير 2011، التي ارتبطت بموجة “الربيع العربي” في المنطقة.
تلك اللحظة دفعت المملكة إلى إصلاحات دستورية جوهرية ساعدت على امتصاص الغضب الشعبي وحماية الاستقرار. واليوم، أن يعلن رئيس حكومة سابق أن الربيع العربي قد يعود، يعني أن الوضع الاجتماعي الراهن لا يُقرأ فقط في ضوء مطالب الصحة والتعليم، بل أيضاً في ضوء ذاكرة الاحتجاج العارم.
خطاب بنكيران يجمع دائماً بين الولاء للمؤسسة الملكية وخطاب شعبي قريب من الناس، لكن استدعاءه “الربيع العربي” غيّر طبيعة المعادلة.
فهو من جهة يظهر كرجل دولة يُحذّر من عواقب استمرار الزبونية والاحتقان الاجتماعي، ومن جهة أخرى يلوّح بلحظة تاريخية اعتبرتها الدولة طيّ صفحة لا يجوز العودة إليها. وهنا يكمن الجدل: هل تصريحه إنذار صادق أم تهديد مبطن يوظف الماضي للضغط على الحاضر؟
النقد الذي وجّهه بنكيران يركّز على ثلاثة محاور أساسية: أولاً، اتهام الحكومة بتحويل السياسة إلى “بزنس” وتوزيع المناصب على أساس القرابة بدل الكفاءة. ثانياً، تبرئة تجربة حزبه خلال عشر سنوات من فضائح الفساد الكبرى أو الاختلاسات.
وثالثاً، الدعوة إلى مصارحة المواطنين بالحقائق الصعبة عوض اعتماد أسلوب التخويف أو “إعادة التربية”. هذه الرسائل، في حد ذاتها، تجد صدى لدى جزء من الرأي العام. لكن ما يجعلها ملتهبة هو ربطها بعبارة: “الربيع العربي سيعود.”
بالنسبة للداخل المغربي، هذا النوع من الخطاب يفتح باب التأويل على مصراعيه. فالمغاربة الذين يخرجون اليوم يرفعون مطالب اجتماعية ملموسة، لا شعارات ثورية.
ومع ذلك، يضع بنكيران احتجاجاتهم في سياق أكبر، وكأنه يقول: الشرارة الصغيرة قد تتحول إلى حريق شامل إذا لم تُدار الأمور بحكمة وإصلاح. أما بالنسبة للدولة، فإن هذا التصريح يعيد تذكيرها بلحظة 2011 التي سعت منذ ذلك الحين إلى تجنب تكرارها بأي ثمن.
لكن هل يمكن أن يعود الربيع العربي فعلاً؟ المؤكد أن الظروف الاقتصادية والاجتماعية في 2025 مختلفة عن 2011: هناك إصلاحات تمت، وهناك أيضاً إخفاقات تراكمت.
الغلاء، البطالة، ضعف الخدمات، كلها عوامل تغذي السخط. غير أن المجتمع المغربي، الذي خبر تلك التجربة، يبحث اليوم عن حلول عملية أكثر من بحثه عن شعارات كبرى.
وهنا يكمن التحدي: كيف تستجيب الدولة للمطالب الاجتماعية العاجلة دون أن تُفتح أبواب المجهول من جديد؟
تصريح بنكيران لن يُقرأ فقط محلياً، بل أيضاً دولياً. فالمغرب قدّم نفسه طيلة العقد الماضي كنموذج للاستقرار في المنطقة، واستضافة المونديال 2030 تعكس هذه الصورة.
أي كلام عن عودة “الربيع العربي” يضع هذه الصورة تحت الاختبار، ويجعل العالم يراقب ما إذا كان الاستقرار المغربي صلباً أم هشاً.
و يبقى السؤال مفتوحاً: هل قصد بنكيران دق ناقوس الخطر بصفته رجل دولة سابق يرى أن البلاد تسير نحو أزمة اجتماعية عميقة؟ أم أنه يستعمل لغة الربيع العربي كسلاح سياسي ضد خصومه، حتى ولو أدى ذلك إلى استدعاء أشباح الماضي؟ بين التحذير والتهديد شعرة، وتصريح بنكيران يترك هذه الشعرة معلقة أمام أعين الجميع.
