لم يكن إدريس لشكر، حين صعد إلى منصة المؤتمر الإقليمي لحزبه بفاس، يخاطب الحاضرين بقدر ما كان يخاطب التاريخ. تحدث بعباراتٍ حزينة عن “أزمة ثقة حادة” و”هيمنة الأغلبية” و”غضب الشباب غير المؤطر”، وكأنه شاهدٌ بريء على انهيارٍ لم يكن شريكًا فيه.
لكن الحقيقة أن الرجل الذي يصف الأزمة اليوم، هو أحد من صنعوها بالأمس.
كان الاتحاد الاشتراكي، لعقودٍ طويلة، الضمير السياسي للمغرب منه خرجت أهم معارك التنوير والحرية والمساواة.
كان الحزب الذي إذا تكلم، أصغت له البلاد. وكان قادته من عبد الرحيم بوعبيد إلى عبد الرحمن اليوسفي رموزًا لوطنيةٍ عاقلةٍ جعلت المعارضة جزءًا من البناء لا من الهدم.
أما اليوم، في عهد إدريس لشكر، فقد تحوّل ذلك الإرث إلى أرشيفٍ يُعلّق على الجدران.
حزبٌ كان يقود الوعي الجمعي صار يلاحق مقاعد في مؤتمراتٍ جهوية، ورمزٌ للحداثة غدا شاهدًا على أفول الفكرة.
حين يتحدث لشكر عن الاحتجاجات بوصفها “جرس إنذار”، يتناسى أن تلك الأجراس قرعت منذ زمنٍ بعيد، حين أدار ظهره للمجتمع وفضّل مقاعد السلطة على مقاعد النضال.
فقد شارك في هندسة المشهد الذي يصفه اليوم بـ”المختنق”، وبارك منظومةً انتخابيةً شوّهت الإرادة الشعبية، ثم عاد ليتحدث عن “الإصلاح”.
كيف يمكن لمن ساهم في إفراغ السياسة من معناها أن يدّعي اليوم حرصه على إنقاذها؟
الاحتجاجات التي تملأ الشوارع ليست فعلاً غاضبًا بلا بوصلة كما يظن، بل استعادةٌ عفويةٌ لمعنى السياسة الذي فقدته الأحزاب.
إنها تمرين وطني في الصدق بعد زمنٍ طويل من اللغة الخشبية. جيلٌ لم يعد يؤمن بالوساطة، ولا يثق في الخطاب الحزبي، لأنه اكتشف أن الشارع أكثر شفافيةً من المنابر.
لقد فشل الاتحاد الاشتراكي، في عهد لشكر، في أن يكون الجسر بين الدولة والمجتمع، بين الغضب والأمل.
فحين انشغلت القيادة بالمناورات، خسر الحزب عمقه الاجتماعي. وحين قبل بتحالفاتٍ أفرغت المعارضة من مضمونها، خسر شرعيته الأخلاقية.
يُحسن لشكر توصيف العطب، لكنه لا يملك شجاعة الاعتراف بالمصدر.
يقول إن “واحدًا من كل أربعة شباب عاطل عن العمل”، وكأنه يتحدث من موقع الملاحظ لا من موقع المشارك في القرار. يتحدث عن “إصلاحٍ سياسي شامل” وكأن الاتحاد لم يكن يومًا جزءًا من هندسة السلطة التي عطّلت هذا الإصلاح.
لقد ماتت المعارضة يوم قرر الاتحاد الاشتراكي أن يهادن بدل أن يقاوم، وأن يبرر بدل أن يُسائل.
ومنذ ذلك اليوم، بدأ الشارع يستعيد وظيفتها: الكلام باسم الناس، لا باسم الشعارات.
وما الاحتجاجات التي تشهدها البلاد اليوم إلا جنازة رمزية لزمنٍ سياسيٍ كانت فيه الأحزاب تتكلم والناس تُصغي قبل أن ينعكس المشهد، فأصبح الناس يتكلمون، والأحزاب تصمت.
إدريس لشكر، في خطابه الأخير، بدا كمن يتحدث من خارج الزمن.
يتأمل خراب السياسة دون أن يرى أثر أقدامه في الركام. فالإصلاح لا يبدأ بالتصريحات، بل بالاعتراف، والاعتراف لا يكون بالندم العابر، بل بالمغادرة الشجاعة.
ربما آن الأوان أن يدرك من قادوا أحزاب الذاكرة أن التاريخ لا يرحم من اختار الصمت حين كان عليه أن يصرخ، ولا من تحدث حين فات الكلام معناه.
