في المغرب، المال العام لا يضيع… بل يذوب في الصمت.
من ملف استيراد الأغنام إلى دعم المصحات الخاصة، تتكرّر القصة نفسها: ملياراتٌ خرجت من الخزينة باسم “المصلحة العامة”، ولم تعد إليها باسم “الإيقاف المؤقت”.
كل شيء بدأ ، حين قرّرت الحكومة دعم ما سُمِّي بـ “المستوردين” أو كما يسميهمالشارع المغربي: الفراقشية لاستيراد الأغنام قبيل عيد الأضحى، بحجة استقرار الأسعار.
وُضعت ملايين الدراهم على الطاولة، قُدّمت التحفيزات بالدرهم والدولار، ووُعِد المواطن بخروفٍ في المتناول.
لكن الخروف اختفى، والدعم اختفى، والأسعار ارتفعت.
حينها، تعالت الأصوات داخل البرلمان مطالبةً بلجنةٍ لتقصي الحقائق حول مصير الدعم ولوائح المستفيدين والجهات التي حصلت على رخص الاستيراد.
ضجّت القاعة بالأسئلة، ثم ساد الصمت.
لا لجنة، لا تقرير، ولا أثر. الملف دُفن كما دُفن من قبله كثيرون: في الكواليس، باسم “الانسجام الحكومي” و“التوافق السياسي”.
واليوم، يُعاد المشهد بالحرف تقريباً، لكن هذه المرة في قطاع الصحة.
فقد دعا الفريق النيابي لحزب التقدم والاشتراكية إلى اجتماعٍ عاجلٍ للجنة القطاعات الاجتماعية بحضور وزير الصحة، أمين التهراوي، لكشف حقيقة الدعم المالي الموجّه للمصحات الخاصة.
طلبٌ بدا في ظاهره رقابياً، لكنه في العمق صرخة في وادٍ سياسيٍّ لا صدى له.
في الجلسة الشهرية ليوم 7 يوليوز 2025، اعترف رئيس الحكومة، عزيز أخنوش، بوجود هذا الدعم، موضحاً أنه “أُوقف مؤقتاً”.
ثم عاد الوزير التهراوي في فاتح أكتوبر ليقول أمام النواب:
“الدعم موجود فعلاً، وقد أوقفتُ الإعانات الاستثمارية الممنوحة للمصحات الخاصة.”
تصريحٌ لا يحتمل التأويل: الدعم كان موجوداً، والوزير أوقفه شخصياً بعدما بلغ عدد الملفات المعروضة على لجنة الاستثمارات سبع مؤسساتٍ صحية كانت تستعد لتلقي تحفيزاتٍ مالية.
لكن بعد يومين فقط، خرجت الجمعية الوطنية للمصحات الخاصة لتنفي جملةً وتفصيلاً استفادة أي مصحة من أي دعمٍ مالي أو تجهيزٍ استثماري.
فأين ذهبت المبالغ المرصودة؟ ومن وقّع على رصدها؟ ولماذا لا تُنشر اللوائح كما في الدول التي تحترم نفسها؟
الوزير التهراوي قدّم تفسيراً أنيقاً، قائلاً:
“المشكل ليس في دعم القطاع الخاص من حيث المبدأ، ولكن في جدوى تحفيز قطاعٍ مربح بطبيعته.”
عبارةٌ تصلح للعناوين، لكنها تُخفي معضلةً أعمق: كيف تُمنح التحفيزات لقطاعٍ يربح من جيب المواطن وصندوق الضمان الاجتماعي معاً؟ وكيف يُفتح باب الدعم أصلاً لمؤسساتٍ لا تعرف الخسارة، بينما المستشفى العمومي يعيش على فتات الميزانية؟
من دعم الأغنام الذي لم يُخفِّض الأسعار، إلى دعم المصحات الذي لم يُصرف، تتكرّر المعادلة نفسها: الحكومة تُنفق المال لتشتري الصمت، والمعارضة تُصفي ضميرها بسؤالٍ يتيم، والبرلمان يدير النسيان باحتراف.
إنه النظام المغربي في نسخته الدقيقة: “إيقاف مؤقت” بدل المحاسبة، “بلاغ توضيحي” بدل الشفافية، و“انسجام سياسي” بدل الحقيقة.
وفي النهاية، يبقى السؤال معلّقاً في الهواء: هل توقف المال فعلاً… أم توقف الكلام فقط؟
 
								

