بقلم: الحيداوي عبد الفتاح
منذ نشأتها، حملت الحركة الإسلامية في العالم الإسلامي مشروعًا إصلاحيًا يقوم على استعادة مكانة الدين في الحياة العامة، وجعل الإسلام مرجعًا للعدالة والكرامة والحرية.
كانت الحركة في جوهرها صوت المظلوم، ورافعة للأخلاق في وجه الاستبداد والفساد، ومُبشِّرة بمجتمع قوامه الحق والمساواة.
لكن المسار الذي انتهت إليه بعض التجارب الإسلامية، وعلى رأسها تجربة حزب العدالة والتنمية المغربي، يكشف عن انحراف عميق عن هذا الأصل، وتحوُّلٍ تدريجي من الخطاب الإصلاحي إلى الوظيفة التدبيرية التي تخدم السلطة أكثر مما تخدم المجتمع.
يُعدّ عبد الإله بن كيران نموذجًا مركزيًا في مسار الإسلاميين المغاربة؛ إذ يجسّد التحول من الخطاب الدعوي الإصلاحي إلى الممارسة السياسية البراغماتية التي تماهت تدريجياً مع منطق الدولة العميقة.
فالرجل الذي تخرّج من رحم الحركة الإسلامية، حاملًا مشروعًا يتأسس على الدعوة إلى القيم والعدالة ومقاومة الفساد، سرعان ما وجد نفسه بعد سنة 2011 في قلب معادلة الحكم، محاطًا بإكراهات الواقع ومحدودية الفعل السياسي.
بن كيران أعاد تعريف مفهوم “الإصلاح” بما يتوافق مع محددات التوازن الممكن، أكثر من توافقه مع الوعود الانتخابية أو المرجعية الإسلامية التي حملها حزبه.
في خطبه قبل توليه رئاسة الحكومة، كان بن كيران يقدّم كصوتٍ ناقدٍ للسلطة، يدعو إلى التغيير من داخل المؤسسات دون القطيعة مع النظام.
لكن منطق الإصلاح من الأعلى القائم على الشفافية والعدالة الاجتماعية، إلى أن توليه رئاسة الحكومة عقب انتخابات 2011 – التي جاءت في سياق ما سُمّي بـ”الربيع العربي” – كشف حدود هذا الخطاب. إذ واجه حزب العدالة والتنمية، ومعه بن كيران، تحديًا مزدوجًا: كيف يُمارس الحكم في ظل ملكية تنفيذية تترك له هامشًا محدودًا للمناورة، وكيف يحافظ على رصيده الأخلاقي أمام قاعدته وجماهيره التي كانت تنتظر نموذجًا بديلًا للحكومات السابقة.
من أبرز القرارات التي كشفت هذا التحول البنيوي إصلاح نظام التقاعد الذي اعتُبر من أكثر الملفات إثارة للجدل في عهد بن كيران. فالإصلاح الذي تم تمريره سنة 2016 أدّى إلى رفع سن التقاعد وتقليص المعاشات، وهو ما اعتبرته النقابات “ضربًا للحقوق الاجتماعية للموظفين”.
كما أقدمت حكومته على تجميد الأجور، وعدم فتح حوار اجتماعي حقيقي مع النقابات، ما زاد من حالة الاحتقان داخل فئات واسعة من الطبقة المتوسطة والموظفين.
من جهة أخرى، مثل تحرير أسعار المحروقات سنة 2015 منعطفًا اقتصاديًا وسياسيًا حاسمًا. فبعدما رفعت الدولة يدها عن تحديد الأسعار، ارتفعت كلفة المعيشة، وازدادت أرباح الشركات الكبرى، وفي مقدمتها شركات مرتبطة من دوائر النفوذ الاقتصادي.
وبذلك تحولت خطوة كانت تُقدَّم في البداية كإصلاح هيكلي لصالح الاقتصاد الوطني إلى عبء مباشر على المستهلكين.
سياسيًا، أظهر بنكيران قدرة كبيرة على التكيّف مع منطق السلطة بدل مواجهتها. فبعد موجة الاحتجاجات التي قادتها حركة 20 فبراير، لم يتبنَّ الرجل موقفًا داعمًا لمطالب الشارع، بل اتخذ موقع الوسيط المهدّئ، داعيًا الشباب إلى عدم الخروج إلى الشارع باسم الاستقرار، ومؤكدًا أن الملكية ضمانة الأمن والوحدة، في وقتٍ كانت فيه شوارع واسعة تطالب بإصلاحات عميقة في بنية الحكم.
هذا الموقف جعل العديد من الباحثين يرون في بنكيران أعاد إنتاج وظيفة الوساطة المخزنية بلبوسٍ إسلامي، فحوّل الخطاب الإصلاحي الذي وُلد في حضن الحركة الإسلامية إلى خطابٍ تدبيريٍّ يخدم منطق الدولة أكثر مما يخدم منطق التغيير.
تتجلّى المفارقة الأوضح في هذا التحول في انتقال الحركة الإسلامية، ممثلة في حزب العدالة والتنمية، من المعارضة الأخلاقية إلى الواقعية السياسية. فبدل من التمسك بمشروع إقامة العدل ومحاربة الفساد الذي شكّل شعار الحزب الانتخابي المركزي، تبنّت الحكومة سياساتٍ تقشفية فُرضت من الداخل والخارج، ولا سيما في ظل توجيهات المالية لصندوق النقد الدولي.
بهذا المعنى، لم يعد الحديث عن الإسلام هو الحل سوى إطار رمزي يُستحضر في الخطاب، بينما أصبحت الأولوية للبقاء في المعادلة السياسية، ولو على حساب المبادئ التي شكّلت هوية الحزب وحركته الدعوية (التوحيد والإصلاح).
إن تجربة بنكيران تُبرز، من منظور سوسيولوجيا الحركات الإسلامية، حدود الانتقال من الدعوة إلى الدولة، إذ سرعان ما تخضع ممارسة الحكم لحركات ذات المرجعية الدينية إلى منطق المؤسسات والسلطة.
تفقد خطابها التعبوي لصالح منطق تبرير السياسات، وهنا تكمن المفارقة الكبرى. الرجل الذي رفع شعار مقاومة الفساد أصبح في نظر منتقديه جزءًا من المنظومة التي كان يُعارضها، وهو ما أدى إلى تآكل القاعدة الشعبية للإسلاميين، وإلى أزمة هوية داخلية ما زال الحزب يُعاني تبعاتها إلى اليوم.
لقد صار بنكيران يمارس ما يشبه الوظيفة الدعوية المخزنية – أي خطابًا أخلاقيًا يُجمّل السلطة ويدين الاحتجاج، ويقدّس الطاعة، وهو ما يجعله أقرب إلى الخطاب المذهبي الذي يُجرّم المعارضة باسم الدين، ويبرّر للحاكم كل تجاوزاته.
هذا الانزياح لم يكن مجرد خطأ سياسي، بل انقلاب على الفلسفة الأصلية للحركة الإسلامية التي بُنيت على أساس مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أي مقاومة الظلم لا مهادنته.
في العالم الإسلامي، كان دور الحركات الإسلامية في لحظات تاريخية حاسمة هو إحياء الوعي، ورفض الطغيان، كما فعلت حركات المقاومة الإسلامية في فلسطين التي لا تزال ترى في الدفاع عن الحق فريضة لا خيارًا.
أما في المغرب، فقد بدت تحوّلات التجربة الإسلامية وأداؤها في منحدرها الإصلاحي، فتحوّل الحزب من حاملٍ لمشروعٍ قيمي إلى أداة ضمن آليات الضبط السياسي.
من هنا تطرح تجربة بنكيران سؤالًا جوهريًا على كل التيارات الإسلامية: ما وظيفة الحركة لتدبير الواقع أم لتغييره؟ هل وظيفتها المحافظة على السلطة أم محاسبتها؟ إن الحركة الإسلامية، في أصل رسالتها، لا يمكن أن تكون إلا صوتًا للحق، تدافع عن المستضعفين، وتذكّر الحاكم بحدود السلطة لا بقداستها.
وكلما ابتعدت عن هذه الوظيفة، فقدت مشروعيتها الدينية والأخلاقية، مهما رفعت من شعارات التقوى أو المرجعية الإسلامية.
إن ما فعله بنكيران هو أنه أفرغ الحركة من معناها، وجعلها إسلامًا بدون إصلاح، وإصلاحًا بدون عدل. وحين يتحول الإسلام السياسي إلى ذراعٍ لتسويق سياسات السلطة بدل نقدها، فإنه يوقّع شهادة وفاته الفكرية والسياسية.
وحدها العودة إلى الأصل – إلى روح الإسلام في نصرة المظلوم، وإحقاق العدل، وإحياء الضمير الجمعي – يمكن أن تعيد الحركة الإسلامية مكانتها، لا عبر التماهي مع المخزن، بل عبر الوفاء لوظيفتها الأولى: مقاومة الفساد لا تبريره.
