حين تُصاب الأحزاب بالشيخوخة، تُصاب الديمقراطية بالعجز.
ففي المغرب، لم تعد السياسة مشروعًا للتجديد بل آليةً لإعادة إنتاج الوجوه نفسها داخل نظامٍ يتنفّس بروحٍ قديمة.
تبدو الديمقراطية المغربية اليوم مهددة بالتحوّل إلى معاشٍ سياسيٍّ دائم، حيث تتقاطع المصالح أكثر مما تتقاطع الأفكار، ويتحوّل النضال إلى مهنةٍ تُدرّ الأجور لا إلى التزامٍ أخلاقي يُنتج المعنى.
تعيش الأحزاب المغربية حالة شيخوخةٍ فكرية وتنظيمية تُضعف دورها في تأطير المواطن وتُحوّلها إلى مؤسساتٍ فاقدةٍ للروح.
ما كانت في الأصل مشاريع وطنية تحمل رؤى ومبادئ، أصبحت اليوم كياناتٍ بيروقراطية تُدير الولاء بدل أن تُنتج الفكرة، وتبحث عن التمويل أكثر مما تبحث عن التغيير.
الزمن السياسي المغربي دخل منذ سنوات مرحلة الجمود.
تتكرّر الوجوه نفسها، وتتبدّل الخطابات دون أن يتبدّل المضمون.
الأحزاب الكبرى تحوّلت إلى شركاتٍ انتخابية تُتقن التسويق أكثر مما تُتقن الإصلاح، أما الأحزاب الصغيرة فصارت أوراقًا رمزية تُستعمل لتجميل مشهد التعددية.
في هذا المناخ، فقد المواطن ثقته، لأن كل دورةٍ انتخابية تُعيد إنتاج نفس التحالفات ونفس الأعذار، فيربح السياسي المقعد ويخسر الوطن الأمل.
تُصرف من المال العام ملايين الدراهم سنويًا تحت شعار “دعم الديمقراطية”.
غير أن الواقع يُظهر أن هذا الدعم لم يُنتج أفكارًا جديدة ولا قيادات شابة، بل رسّخ نفس النخبة التي تدور حول نفسها.
مؤتمرات تُقام لتصوير الصور، بياناتٌ تُكتب لتبرير الصمت، وتقارير مالية تُقدَّم دون أثرٍ في الشارع.
ما يحدث ليس دعمًا للديمقراطية، بل تمويلٌ رسميٌّ للعجز السياسي وتدويرٌ للمردودية الصفرية.
في الديمقراطيات التي تحترم نفسها، الحزب الذي يفشل في الإقناع يُعاقَب بالصندوق، لا يُكافَأ بالدعم.
أما في المغرب، فالفشل يتحوّل إلى رصيدٍ انتخابي جديد، والمشاركة في الحكومة إلى امتيازٍ يُجدد تلقائيًا.
السؤال المؤرق هنا: لماذا تُمنح الأحزاب التي شاركت في الحكومات المتعاقبة فرصةً جديدة قبل أن تُحاسَب؟
وأي منطقٍ يجعل من التجربة السياسية حقًّا أبديًا لا امتحانًا مرحليًا؟
المنطق الديمقراطي السليم يقتضي أن كل حزبٍ شارك في الحكومة ولم يُحقّق نتائج ملموسة، يجب أن يجلس سنتين على الأقل خارج المنافسة السياسية، فترةً للتقييم والمراجعة والمحاسبة الداخلية.
حزبٌ فشل في التدبير لا يستحق أن يُمنح مباشرة فرصةً جديدة لإعادة الخطأ نفسه.
هذه السنتان يجب أن تكونا فترة تجميدٍ كاملة: لا ترشّح، لا دعم عمومي، ولا استغلالٌ للسلطة الرمزية.
فقط مراجعة هادئة للبرامج وتجديدٌ صادق للقيادات والأفكار.
كما تُفرض على الشركات فترات مراقبة بعد العجز المالي، يجب أن تُفرض على الأحزاب فترات مراجعة بعد العجز السياسي.
فمن غير المعقول أن يستمر نفس الفاعلين في التداول بين الحكومة والمعارضة وكأن الدولة مختبرٌ للتجارب الدائمة.
الحزب الذي مرّ من الحكومة ولم يُصلح التعليم أو الصحة أو العدالة الاجتماعية، عليه أن يعود إلى المعارضة لا إلى الصندوق العمومي.
السياسة ليست مهنةً تُمارَس مدى الحياة، بل تكليفٌ ينتهي حين تفشل الفكرة ويغيب الأثر.
شيخوخة الأحزاب المغربية ليست فقط في الأعمار، بل في الذهنيات.
الزعامات تُخلَّد داخل المقرات، وتُورَّث المقاعد كما تُورَّث الأملاك.
الديمقراطية الداخلية تُستعمل كديكورٍ لغوي، والشباب يُقصَون بحجة “قلة الخبرة”.
في المقابل، تستمر نفس الوجوه في تصدّر المشهد، كأن الزمن السياسي المغربي عالق في صورةٍ قديمة لا يريد أحدٌ أن يُغيّرها.
المشهد الحزبي أصبح أشبه بمتحفٍ سياسيٍّ يُعرض فيه الماضي أكثر مما يُستشرف به المستقبل.
الإصلاح لم يعد شعارًا انتخابيًا، بل ضرورةً وجودية لإعادة تعريف معنى الحزب نفسه.
الحزب الذي يعيش من أموال الدولة دون مردودية، ويمارس السياسة كما تُمارَس الطقوس الإدارية، لم يعد فاعلاً في البناء الديمقراطي بل أصبح عائقًا أمام تطوره.
لهذا، فإن تجديد الحياة الحزبية ليس ترفًا سياسيًا، بل مسؤولية وطنية.
الأحزاب التي استنفدت صلاحيتها الفكرية والتنظيمية يجب أن تُحال على التقاعد السياسي كما يُحال الموظف بعد نهاية خدمته.
السياسة ليست تقليدًا يُورَّث، بل فكرةٌ تُجدَّد.
الديمقراطية المغربية اليوم لا تحتاج إلى مزيدٍ من الأحزاب، بل إلى قليلٍ من الصدق وكثيرٍ من الكفاءة.
فالكثرة لم تُنتج التعدد، والدعم لم يُثمر المحاسبة، والوجوه التي لم تُقنع في الحكم لن تُقنع في المعارضة.
من لا يُقنع، لا يُدعم. ومن يهرم في موقعه، يُحال إلى التقاعد السياسي. فالأوطان تُبنى بالأفكار الحية لا بالزعامات الخالدة.
وحين تتعب الأفكار، تتسلّل الشيخوخة إلى السياسة قبل أن تتسلّل إلى السياسيين.
