الكارثة الحقيقية ليست في تقدّم الأنظمة في العمر، بل في عجزها عن التجدد.
وحين يتحوّل الزمن السياسي إلى دائرةٍ مغلقة، يغدو الخلود نوعًا من التدهور المُمأسس، وتتحوّل الزعامة من مسؤوليةٍ إلى إقامةٍ دائمة، ومن فعلٍ جماعي إلى توقيعٍ فرديٍّ باسم التاريخ.
ذلك هو الخلود السياسي: مرض السلطة حين تتجمّل بالشرعية، ووجه الانحطاط الديمقراطي حين يلبس قناع الاستقرار.
الأحزاب التي وُلدت من رحم النضال الوطني لم تعد مدارس للحرية، بل مؤسساتٍ لإدارة البقاء.
وجوهٌ تتكرّر، شعاراتٌ تُستعاد، وخطاباتٌ تتشابه حتى غدت السياسة في المغرب فنًّا لتدوير الماضي لا لاستشراف المستقبل.
القيادة التي كان يُفترض أن تُسلِّم المشعل أصبحت تحرسه كرمزٍ مقدّس، تُمدَّد ولاياتها باسم الإجماع، وتُعدَّل القوانين الداخلية لتخدم من يقف على رأسها،
بينما تُختزل الديمقراطية في الطقوس، وتُستبدل روح التنافس بمسرحٍ من التصفيق الموجَّه.
كل شيء يُدار كما لو أن الزعامة قدرٌ أبديّ، لا يزول بالتقادم ولا يُراجع بالمحاسبة.
المؤتمرات تُعقد كطقوسٍ متكررة، والقرارات تُصاغ في دوائر مغلقة، والنقد الداخلي يُعامل كإهانةٍ شخصية لا كحقٍّ تنظيمي.
بهذا المعنى، لم تعد الزعامة فعل قيادة، بل صارت نظامًا قائمًا بذاته، يُنتج الولاء كما تُنتج المؤسسات الحديثة البيروقراطية.
الخلود السياسي لا يأتي بانقلابٍ أو مؤامرة، بل ببطءٍ مخمليٍّ يشبه الذبول.
يتسلّل عبر اللغة الرسمية والمبررات الهادئة، عبر خطاب “الاستمرارية” الذي يحوّل البقاء إلى فضيلةٍ وطنية.
لكن خلف هذا الهدوء، تنكمش الحياة السياسية، تذبل المبادرة، وتتحوّل الأحزاب إلى أرشيفٍ للوجوه لا إلى مختبرٍ للأفكار.
السياسة التي كانت فعل مشاركة صارت مهنةً مغلقة.
الزعيم يحتكر الضوء، والجيل الجديد يُترك في الظلّ.
من حاول التغيير يُتَّهم بالتسرّع، ومن صمت يُكافأ بالقرب.
هكذا تُخلق بيئةٌ رماديةٌ حيث الولاء يسبق الكفاءة، والفكرة تُقاس بمدى الانسجام لا بمدى الجرأة.
في هذا المناخ، يصبح الفساد ناعماً، متقناً، بلا صخبٍ ولا فضيحة.
لا يُقاس بالأموال المسروقة، بل بالفرص المهدورة.
لا يُمارس ضد القانون، بل من خلاله.
الزعامة تتحوّل إلى رأس مالٍ رمزيٍّ تُدار به المنافع وتُضبط به الشبكات، وكل شيء يبدو قانونيًا… إلى أن تكتشف أن القانون نفسه صيغ لخدمة البقاء.
جيلٌ جديدٌ وُلد خارج هذه المنظومة، لا يثق في اللغة القديمة ولا في مؤسساتها.
يحمل وعيًا مختلفًا بالعالم وبالمواطنة، ويبحث عن فضاءاتٍ أفقيةٍ للتعبير، في المنصات لا في المقرّات،
في النقاشات المفتوحة لا في الاجتماعات المغلقة.
هذا الجيل لا يعادي السياسة، لكنه يعادي الخلود فيها؛ يريدها فعلًا زمنيًّا، متجددًا، يحمل روح المساءلة لا رتابة الولاء.
ومع ذلك، يظلّ القديم متشبثًا بمكانه.
الذين صنعوا التاريخ بالأمس يرفضون أن يُكتب فصلٌ جديد بدونهم.
كأنهم يخشون أن يكتشفوا أن الوطن قادرٌ على المضيّ من دونهم، وأن الديمقراطية لا تُقاس بطول البقاء، بل بقدرة المؤسسات على توليد البدائل.
الانحطاط الديمقراطي لا يأتي بصوت الدبابات، بل بصمت التصفيق.
حين يُختزل الحزب في شخص، والقرار في توقيع، والرأي في ولاء، تتحوّل السياسة إلى قشرةٍ من الطقوس تخفي جفاف الحياة داخلها.
وهكذا يصبح الخلود السياسي وجهًا أنيقًا لانحطاطٍ مكتملٍ لا يجرؤ أحدٌ على تسميته.
ليست الدعوة إلى الرحيل تمرّدًا، بل محاولة لإنقاذ الفكرة من الشيخوخة.
التجديد لا يعني القطيعة مع التاريخ، بل إنقاذه من التكلّس.
الزمن لا يرحم من يصرّ على الوقوف في وجهه، والأمم لا تنهض إلا حين يتعلّم قادتها أن المغادرة، أحيانًا، أسمى أشكال القيادة.
حين يتحوّل البقاء إلى عقيدةٍ سياسية، تموت الفكرة في صمتٍ نبيل.
وفي عالمٍ يركض نحو الغد، لا شيء أكثر مأساوية من زعيمٍ يعتقد أن الزمن ينتظره.
