بقلم: نعيم بوسلهام
في خضمّ التحولات الاجتماعية والسياسية التي يعيشها المغرب، وبعد الزلزال الذي أحدثته احتجاجات جيل “زد” في الشارع الرقمي ثم الواقعي، يبدو أن الدولة استوعبت الرسالة : لا يمكن الاستمرار في إدارة البلاد بذهنية المكاتب المكيفة و”الولاءات الإدارية” التي ترفع التقارير الوردية وتخفي تحتها تآكل الثقة، وتفاقم الفوارق، واحتقان الشباب.
القرار الملكي الأخير بإطلاق لقاءات تشاورية موسعة عبر 75 إقليماً، بإشراف الولاة والعمال، جاء ليعيد الاعتبار لفكرة الإنصات للمواطنين والمجتمع المدني، ولينعش ما تبقّى من أمل في بناء إدارة قريبة من نبض الشارع، لا من نبض التقارير المصنوعة في دهاليز المصالح الخاصة.
غير أن السؤال الجوهري الذي يفرض نفسه: هل يمكن للولاة والعمال أنفسهم الذين ساهموا في خنق المجتمع المدني وإقصاء الأصوات الحرة أن يتحولوا اليوم إلى وسطاء حقيقيين بين الدولة والمجتمع؟
على مدى سنوات، تحكمت في المشهد المحلي سياسة اللواءات وشراء الذمم، وتكريس منطق “قولو العام زين”، حيث كانت الجمعيات التي ترفع الشعارات الرسمية وتحسن التطبيل للسلطة تحظى بالدعم والتقريب، بينما تُقصى الأصوات الجادة التي تمارس النقد البناء وتفضح الفساد الإداري والزبونية.
لقد تحول جزء من المجتمع المدني – للأسف – إلى ذراع تبريري للسلطة الترابية، بدل أن يكون قوة اقتراحية ورقابية. والولاة والعمال بدورهم – في كثير من الحالات – تعاملوا مع المواطن كـ”ملف إداري”، لا كفاعل وشريك في التنمية.
ولعل احتجاجات جيل زد كانت بمثابة صفعة قوية لهذا النموذج المتكلس من التسيير، إذ كشفت أن جيلاً جديداً من المغاربة لم يعد يخضع لمنطق الخوف أو التجميل الزائف للواقع، وأن الثقة المفقودة لا تُستعاد ببلاغات رسمية، بل بإصلاح حقيقي يطال سلوك السلطة نفسها، قبل أي إصلاح إداري أو تنموي.
اليوم، بينما يستعد الولاة والعمال لعقد هذه اللقاءات التشاورية، تبرز مفارقة صارخة: هل يمكن للآذان التي لم تسمع طيلة سنوات أن تنصت الآن بصدق؟
هل يمكن أن تتحول المكاتب المغلقة إلى فضاءات للحوار؟
وهل ستُنقل فعلاً هموم الساكنة إلى الدوائر العليا كما هي، أم ستُصفّى وتُجمّل كعادة الإدارات الترابية التي تخشى قول الحقيقة؟
إن الإرادة الملكية واضحة في دعوتها إلى بناء “دولة الإنصات والمسؤولية”، لكن التحدي يكمن في الوسائط الترابية التي أضعفت الثقة بين المواطن والدولة. فالقرب من المواطن ليس مجرد شعار يُرفع في خطب رسمية، بل ممارسة يومية تبدأ من تعامل رجل السلطة مع المواطن في أبسط تفاصيل حياته، من الإدارة إلى الشارع، ومن الجمعية إلى المجلس البلدي.
لقد آن الأوان لطي صفحة “التقارير الصفراء” و”الوجوه المطيعة” التي حولت الإدارة إلى مرآة مزيفة للواقع. المغرب الجديد الذي يرسم ملامحه الملك محمد السادس لا يمكن أن يُبنى على الرياء الإداري، بل على شجاعة قول الحقيقة، ولو كانت مرة.
إن الشعب المغربي، وخاصة شبابه، لا ينتظر حفلات تشاور شكلية، بل يريد سلطة ترابية مسؤولة، نزيهة، ومبدعة، تؤمن أن خدمة الوطن تبدأ من خدمة المواطن، لا من خدمـة الصورة.
أما أولئك الذين لا زالوا يعيشون بعقلية “قولو العام زين”، فقد حان الوقت ليُقال لهم: العام ما بقاش زين… والمغاربة فاقوا.
