BZ
في خطابه بمناسبة الذكرى السادسة والعشرين لاعتلائه العرش، قدّم جلالة الملك محمد السادس رؤية متوازنة لواقع المملكة، بين ما تحقق من مكاسب اقتصادية، وما تزال تعانيه شرائح واسعة من الشعب المغربي من تفاوتات بنيوية، وفوارق ترابية صارخة.
لكن ما بين سطور هذا الخطاب، كانت هناك رسائل واضحة، بل وموجعة، موجهة إلى حكومة عزيز أخنوش، التي يبدو أنها أمعنت في التباهي بالأرقام والمؤشرات، بينما ظل المواطن ينتظر الأثر الملموس في حياته اليومية.
أولًا: الملك يُسائل المنهج، لا الأرقام
لم ينكر جلالة الملك حجم الإنجازات التي عرفها المغرب خلال العقد الأخير، خاصة في مجال الصادرات الصناعية، والبنية التحتية، والاستثمارات الأجنبية. غير أن اللافت في الخطاب هو هذا المقطع الدقيق:
“إنني لن أكون راضيا، مهما بلغ مستوى التنمية الاقتصادية والبنيات التحتية، إذا لم تساهم بشكل ملموس في تحسين ظروف عيش المواطنين من كل الفئات، وفي جميع المناطق والجهات.”
إنها عبارة تختزل فشل حكومة أخنوش في تحقيق العدالة الاجتماعية والمجالية، وتُحوّل النقاش من استعراض الأرقام إلى سؤال جوهري: من يستفيد من التنمية؟
ثانيًا: المغرب الذي يسير بسرعتين… لم يعد مقبولًا
حين يقول الملك:
“لا مكان اليوم ولا غدًا لمغرب يسير بسرعتين”
فهو لا يصدر موعظة سياسية، بل يُطلق إنذارًا استراتيجيًا. ذلك أن المغرب الذي تسير فيه الدار البيضاء وطنجة بسرعات عليا، بينما تنوء قرى الأطلس وسوس تحت وطأة العزلة والحرمان، هو مغرب مهدد في تماسكه الوطني.
ولعل هذا الكلام يطال مخرجات السياسات القطاعية لحكومة أخنوش، التي ركّزت على النموذج الرأسي للاستثمار، دون توفير الأفق الأفقي للتنمية المحلية والعدالة المجالية.
ثالثًا: حين ينتقد الملك المقاربة الاجتماعية المعتمدة
من أخطر العبارات التي تضمنها الخطاب الملكي، والتي مرّت على كثيرين مرور الكرام، هي قوله:
“ندعو إلى الانتقال من مقاربات تقليدية للتنمية الاجتماعية، إلى مقاربة للتنمية المجالية المندمجة.”
هذه العبارة تعني ببساطة أن السياسات الاجتماعية الحالية – ومنها برامج الدعم والتحويلات الأسرية – لم تعد كافية ولا مُقنعة. فالمطلوب ليس فقط دعم الأسر، بل تحرير طاقاتها عبر بنية تحتية، وتشغيل، وخدمات عمومية تحفظ الكرامة.
وهنا، تبدو حكومة أخنوش، التي راهنت على مقاربة الدعم المباشر، مطالبة بإعادة النظر في رؤيتها، والإقرار بأنها عالجت أعراض الفقر، لا جذوره.
رابعًا: الانتخابات المقبلة… وتوجيه ملكي استباقي
في توقيت بالغ الحساسية، أشار جلالة الملك إلى الاستحقاقات التشريعية القادمة سنة 2026، مؤكدًا على ضرورة اعتماد الإطار القانوني المنظم لها قبل نهاية السنة الجارية.
“وقد أعطينا تعليماتنا لوزير الداخلية لفتح المشاورات مع مختلف الفاعلين السياسيين.”
إنها رسالة سياسية دقيقة، مفادها أن قواعد اللعبة الديمقراطية لا يجب أن تُدار من داخل “غرف الانتظار الحزبية”، بل في ضوء شفاف ومسؤول، يحترم الدستور، ويُعيد الثقة في المسار الانتخابي.
ولعل هذا التوجيه يُقرأ أيضاً كتحذير ضمني لحكومة أخنوش، بأن مرحلة التحضير للانتخابات ليست لحظة تحكم، بل لحظة تأهيل وشرعية.
خلاصة: خطاب استباقي لحظة التباطؤ السياسي
لقد حمل خطاب العرش لهذه السنة مستوى عالياً من الصراحة والوضوح، لا في تحميل المسؤولية فحسب، بل في رسم بوصلة العمل الوطني للمرحلة المقبلة.
إنه خطاب يؤسس لمرحلة جديدة، لا تقبل بتجميل الواقع ولا بتزييف الأرقام. مرحلة يكون فيها الاستثمار في الإنسان – قبل الحجر – هو مقياس نجاح الدولة.
وإذا كان الملك قد فعل ما عليه من توجيه وتنبيه، فإن الكرة الآن في ملعب الحكومة، التي عليها أن تُثبت للمغاربة أنها فهمت الرسائل الملكية، لا أن تكتفي بالترويج لإنجازات من ورق.