حين يتحوّل الإنتاج الفلاحي من وظيفة اجتماعية إلى مطية تجارية بحتة، تصبح الأرض مجرد منصة للتصدير، ويصبح المواطن رقماً في معادلة لا تستحضر حاجاته، بل تمرّ عبره… دون أن تتوقف عنده.
النموذج الفلاحي المغربي، كما يُمارس اليوم، يكشف عن مفارقة صارخة: الوفرة لا تعني العدالة، والتصدير لا يعني السيادة.
ففي الوقت الذي تحتفل فيه الأرقام بارتفاع صادرات الطماطم بنسبة 40% نحو إسبانيا، لا يجد المستهلك المغربي ثمن “ماطيشة” في متناول يده، رغم أن الأرض هي نفس الأرض، والموسم هو موسم وفرة.
المشكل ليس في الجودة، ولا في القدرة الإنتاجية، بل في الاتجاه.
كل الطرق الزراعية تؤدي إلى الخارج، ليس لأن الداخل مكتفٍ، بل لأنه ليس أولوية.
المنظومة الفلاحية لا تشتغل بمنطق “الاكتفاء”، بل بمنطق “من يدفع أكثر”.
ومع الزمن، تحوّل هذا المنطق إلى ثقافة مؤسساتية: ما يُزرع في المغرب، يُوجَّه للتصدير، وما يتبقى، يُترك للمغاربة… إن تبقّى شيء.
بل إنّ هناك أنواعًا من الفواكه الراقية لا يعرفها المواطن المغربي، ولم يتذوّقها يومًا، لأنها تُقطف وتُشحن مباشرة نحو أوروبا.
كأنّ الأرض تُنتج لأفواه لا تتحدث لغته، وتمرّر خيراتها فوق رؤوس أبنائها، بلا أن تترك لهم طعمًا… ولا نصيبًا.
المنتوج الفلاحي المغربي يُسوق كقصة نجاح في المعارض والمنتديات الدولية، بينما يُخفي فشلًا داخليًا في تمكين المواطن من خيرات بلده.
نموذج الطماطم مجرد وجه من وجوه المفارقة: تُصدّر بأثمنة منخفضة، وتُباع داخليًا بأسعار لا ترحم.
وكلما ارتفع الطلب الخارجي، اختنق السوق الداخلي، وارتفعت الأسعار، وتكاثر السماسرة، وغابت الدولة.
فأين السيادة؟ وأين العدالة؟ وأين المواطن من كل هذا؟
أن تصدّر فاكهتك وخضارك للعالم، أمر جميل.
لكن أن تفعل ذلك بينما الداخل محروم منها، فذاك ليس نجاحًا… بل مؤشر خلل.
السيادة تبدأ حين يُطعِم الوطن أبناءه، لا حين يُطعم الأسواق الخارجية فقط.
نموذج فلاحي حقيقي هو الذي يجعل من السوق الداخلية وجهته الأولى، ويضع المواطن في قلب أولوياته، لا في هامش أوراق التصدير.
الأرض لا تكون وطنًا إلا حين يشعر المواطن بأنه أول من يقطف ثمارها.
أما حين تتحوّل الفواكه إلى ماركات عالمية لا تُعرض إلا في باريس وأمستردام، والمغربي لا يعرفها إلا من الصور… فحينها، لا نكون أمام تصدير، بل أمام اغتراب زراعي.