لم يكن الخطاب الملكي الأخير مجرد تذكير بعدالة مجالية معلّقة، بل كان إعلانًا صريحًا عن فشل مقاربات التنمية التقليدية، وتأكيدًا على أن مغرب السرعتين لم يعد مقبولًا لا اليوم ولا غدًا.
ومع ذلك، فإن أول رد فعل مؤسساتي جاء في شكل مذكرة وزارية من وزارة الداخلية، تدعو الولاة والعمال إلى إعداد “جيل جديد من برامج التنمية الترابية المندمجة”، دون إطار قانوني واضح أو مرجعية تشريعية تُحدّد معالم هذا التحول.
هنا تحديدًا، يبدأ التأويل. تأويل إداري لتوجيه ملكي، يتحوّل بسرعة إلى سياسة عمومية تُكتب من فوق، وتُدبَّر من خارج المساطر التي يفرضها القانون التنظيمي للجماعات والجهات. وبذلك، نعود إلى نقطة البداية: المركز يُحدّد، والأطراف تُنفّذ.
الدكتور إدريس الفينة، في تحليله الدقيق، اعتبر أن هذه المذكرة تطرح إشكالات عميقة في العلاقة بين الدولة والمجال.
فهي لا تُلزم الحكومة بتعديل القوانين التنظيمية، ولا تضع إطارًا قانونيًا جديدًا للوثائق المطلوبة، بل تكتفي بتكليف ممثلي السلطة الترابية، الذين كانوا أصلًا جزءًا من إخفاقات المرحلة السابقة، بوضع تصورات جديدة يفترض أن تُغيّر الواقع.
لكن أي واقع يمكن تغييره بأدوات قديمة؟ وأي تحول مجالي يمكن أن يبدأ بمذكرة غير مؤطرة، وبلا موارد إضافية، ولا مشاركة فعلية للمجالس المنتخبة؟
الخطورة لا تكمن فقط في مضمون المذكرة، بل في منطقها. فهي تُعبّر عن إرادة فوقية في توجيه التنمية، دون إشراك فعلي للمجالس الترابية، ودون تعديل النصوص القانونية التي تمنحها صلاحيات إعداد البرامج والمصادقة عليها وتنفيذها.
بالتالي، تتحوّل هذه المجالس من فاعل دستوري منتخب إلى منفّذ تقني، يشتغل تحت سلطة العمال والولاة، لا في إطار تكامل مؤسساتي، بل في إطار وصاية رمزية تُعيد إنتاج الهيمنة المركزية بصيغة ناعمة.
ولأن المذكرة لم تُحدّد مرجعية قانونية واضحة، فإنها تفتح الباب لتعدد التأويلات، وتُحمّل الإدارة الترابية مسؤوليات لا تحكمها قواعد مضبوطة، ولا تخضع لأي مسطرة للمحاسبة الديمقراطية.
وهذا ما يجعل من الوثيقة أداة تخطيط خارج المسار المؤسساتي، حتى لو بُرّرت بضرورة الاستعجال أو حسن النية.
ثم إن إسناد مهمة الإعداد لهؤلاء الولاة والعمال، الذين أشرفوا لسنوات على نفس المجالس التي تعاني اليوم من الفقر البنيوي والتنموي، يُعيد طرح سؤال الجدية: هل نعالج الفشل بالأدوات نفسها التي أنتجته؟
الدكتور الفينة يذكّر كذلك بأن الدراسة التي أشرف عليها منذ أكثر من عقد، أثبتت أن ضعف التنمية لا يرجع فقط إلى غياب البرامج، بل إلى محدودية التمويلات وضعف الحكامة، وعجز القيادات المحلية عن تنزيل أي تصور فعّال بسبب الاختلالات البنيوية.
من هنا، يصبح “الجيل الجديد من البرامج” مجرد عنوان إنشائي فارغ، إذا لم يتمّ تأسيسه على قاعدة قانونية واضحة، وتمويل حقيقي، وتوزيع عادل للاختصاصات بين الدولة والمجالس الترابية.
العدالة المجالية التي تحدث عنها الملك لا تتحقق بمذكرات فوقية، بل بتشريعات واضحة، وبمؤسسات تُشارك في صياغة القرار، لا تُستدعى فقط عند التنفيذ.
إن التنمية التي تُؤوَّل من فوق، والمجالس التي تُختزل في التنفيذ، لا تصنع دولة الجهات، بل تعيدنا إلى دولة المراسلات، حيث يسود التأويل، ويغيب التعاقد الديمقراطي.