The Cost of Misunderstanding… When “Autonomy” Turns into a Federal Experiment
حين كتب توفيق بوعشرين مقاله المعنون بـ“فاتورة الحكم الذاتي ليست قليلة”، بدا كمن يخلط بين أوراق التاريخ وخرائط الدستور.
فالرجل أراد أن يقدّم قراءة فكرية في مسار الصحراء المغربية، لكنه انتهى بتقديم “تصوّر فيدرالي” لا علاقة له بالمبادرة المغربية، ولا بما اعترف به مجلس الأمن باعتباره الإطار الواقعي الوحيد للحل.
مقال بوعشرين يشبه نصًا جميلًا في لغته، لكنه مشوش في منطقه، يزيّن الخطأ بالمجاز، ويمزج بين التحليل السياسي والتأمل الفلسفي كما لو كان يكتب عن رواية لا عن مشروع سيادي.
أول ما يسقط فيه بوعشرين هو الخلط المفاهيمي الخطير بين الحكم الذاتي والنظام الفيدرالي.
فهو يقول إن المغرب “ينتقل من منطق الدفاع الترابي إلى منطق البناء السياسي الفيدرالي”، وكأن الدولة أعلنت فجأة نهاية وحدتها وبداية توزيع السيادة.
الحكم الذاتي كما جاء في المبادرة المغربية ليس انتقالًا إلى الفيدرالية، بل هو توسيع لصلاحيات محلية داخل سيادة وطنية واحدة.
الفيدرالية تقوم على تقاسم السيادة بين المركز والمكونات، أما الحكم الذاتي في الصحراء فيقوم على تفويض تدبيري موسّع داخل وحدة الدولة.
المقارنة بينهما تشبه من يقول إن “الجهة” تعني “الدولة” أو إن “البلدية” تعني “الوزارة”.
خطأ المفهوم هنا ليس بسيطًا، لأنه يغيّر طبيعة المشروع برمّته، من مبادرة ترابية إلى مشروع لتفكيك المركزية السياسية.
ثمّ يضيف بوعشرين بأن المغرب “سيخرج من نظام مركزي بسيط إلى نظام لا مركزي فيدرالي مركّب”، وهي جملة تجمع بين ثلاثة مستويات لا تجتمع دستوريًا.
المغرب أصلًا خرج من المركزية منذ دستور 2011، حين نصّ الفصل الأول على أن “التنظيم الترابي للمملكة تنظيم لا مركزي يقوم على الجهوية المتقدمة”.
أما الحديث عن “فيدرالية مركّبة” فهو قفزة لغوية لا تستند إلى أي نص أو مرجعية.
فلا الحكومة طرحتها، ولا المؤسسة الملكية تحدثت عنها، ولا حتى الأمم المتحدة اقترحتها.
هنا يتحوّل التحليل إلى تأليف، والرأي إلى تصور خارج السياق.
ثمّ يربط بوعشرين بين الحكم الذاتي والمسيرة الخضراء كما لو أن الحدثين ينتميان إلى السلسلة نفسها.
يقول إن المسيرة الخضراء كانت مدخلًا لانفراج سياسي، والحكم الذاتي اليوم يمكن أن يكون مدخلًا آخر.
الربط في ظاهره جميل، لكنه يخلط بين مشروع تحريري ومشروع تدبيري.
المسيرة الخضراء كانت لحظة استرجاع للأرض، أما الحكم الذاتي فهو لحظة لترسيخ السيادة وتنظيمها.
الفرق بين “استعادة التراب” و“تدبير التراب” كبير جدًا، ولا يجوز الخلط بين من حرر الأرض ومن يديرها اليوم في إطار مؤسساتي.
ثمّ ينتقل الكاتب إلى الحديث عن “مملكة فيدرالية”، داعيًا إلى “إطلاق حوار وطني للتفكير في مملكةٍ فيدراليةٍ للحكم الذاتي”، وهنا تبلغ المغالطة أقصاها.
لأننا ببساطة لسنا أمام أي مراجعة لنظام الحكم ولا لطبيعة الدولة.
المغرب دولة موحدة ذات سيادة لا تقبل التجزئة، وهذا ثابت في الدستور وفي جميع الخطب الملكية والوثائق الأممية.
الحديث عن “مملكة فيدرالية” هو تعبير خارج الدستور وخارج السياسة الواقعية، ويحوّل النقاش من تسوية نزاع ترابي إلى مشروع لتغيير بنية النظام.
حتى على المستوى اللغوي، استعمال “مملكة فيدرالية” في السياق المغربي يُعتبر تناقضًا ذاتيًا، لأن الملكية الفيدرالية تتناقض مع مبدأ وحدة الدولة الذي تقوم عليه البيعة والسيادة الوطنية.
كما يسقط بوعشرين في خطأ آخر حين يصف الحكم الذاتي بأنه “لا غالب فيه ولا مغلوب”.
وهذا تعبير دبلوماسي أنيق، لكنه يُفرغ الانتصار المغربي من مضمونه السيادي.
فالمغرب اليوم ليس في موقع التعادل مع أحد، بل في موقع مَن فرض منطقه بالعقل والشرعية والدبلوماسية.
مجلس الأمن لم يفرض عليه حلًّا وسطًا، بل تبنّى مبادرته باعتبارها الإطار الوحيد الواقعي والجاد.
القول بـ“لا غالب ولا مغلوب” يساوي بين الدولة والجماعة المسلحة، ويعيد الصراع إلى منطق التفاوض النديّ، بينما العالم اليوم يتحدث عن “تتويج المسار المغربي”.
المنتصر الحقيقي لا يحتاج إلى إعلان النصر، بل يفرضه بالهدوء والسياسة، وهذا ما فعله المغرب.
وفي محاولة لإضفاء عمق إنساني على تحليله، يربط بوعشرين نجاح الحكم الذاتي بـ“انفراج حقوقي وعفو شامل عن المعتقلين السياسيين وحكامة قضائية وأمنية جديدة”.
هذا الكلام يبدو جميلاً من الناحية الخطابية، لكنه لا علاقة له بالملف الترابي.
فالحكم الذاتي ليس مشروطًا بإجراءات حقوقية داخلية، بل هو مشروع سيادي ودبلوماسي موجّه نحو المنتظم الدولي.
ربط الملف الترابي بالملفات الحقوقية الداخلية خلط بين مستويين مختلفين: الترابي السيادي والحقوقي الوطني.
النزاع حول الصحراء ليس نتيجة اعتقال سياسي أو تضييق على الحريات، بل هو نتيجة صراع إقليمي طويل بدأ قبل نصف قرن.
وبالتالي، تقديم “العفو الشامل” كشرطٍ لإنجاح الحكم الذاتي هو قراءة رمزية جميلة، لكنها سياسية فارغة.
ولا يقف الخلط عند هذا الحد، بل يمتد إلى ما هو لغوي أيضًا.
حين يتحدث بوعشرين عن “جزء من الشعب وجزء من الإقليم”، فهو — دون قصد ربما — يُكرّس خطاب الفصل لا خطاب الوحدة.
الصحراويون ليسوا “جزءًا من الشعب المغربي”، بل هم جزء من الشعب المغربي نفسه.
عبارة “جزء من الشعب” توحي بوجود شعبين أو كيانين داخل الدولة، وهو ما يتناقض مع روح المبادرة المغربية التي تتحدث عن “سكان الأقاليم الجنوبية للمملكة المغربية” لا عن “شعبٍ موازٍ”.
اللغة السياسية هنا أخطر من المعنى، لأنها تفتح الباب أمام تأويلات انفصالية ناعمة، حتى وإن كان المقصود أدبيًا لا سياسيا.
وفي كل ذلك، يستعمل الكاتب لغة جميلة لكنها مشبعة بالاستعارات التي تُغرق النص في الرمزية وتخرجه من التحليل.
حديثه عن “مولود تأخر نصف قرن” و“عقيقة الحكم الذاتي” و“الأوكسجين السياسي” يجعل النص أقرب إلى خطابٍ شعريٍّ لا إلى تحليلٍ واقعيٍّ.
اللغة هنا تخدم الجمالية، لكنها تقتل الدقة، لأن السياسة لا تحتاج إلى استعاراتٍ من غرفة الولادة بل إلى مفاهيم من قاعة الدستور.
بوعشرين يصف الحكم الذاتي بأنه “مشروع ديمقراطي راقٍ يحتاج إلى استعداد سياسي جديد”،
لكن في الواقع، الحكم الذاتي ليس مشروعًا ديمقراطيًا داخليًا بقدر ما هو تجسيد لإرادة دولة في حل نزاعٍ خارجيٍّ على أرضها.
المغرب لم يطرح الحكم الذاتي كمختبرٍ لتجريب الديمقراطية، بل كمبادرة سيادية تُظهر نضج الدولة واستعدادها لتدبير التنوع داخل الوحدة.
الذين يقدّمونه كـ”تجربة ديمقراطية” يفرّغونه من جوهره السيادي،
ويحوّلونه إلى تجربة إدارية داخلية، بينما هو في حقيقته قرارٌ استراتيجيٌّ يرسم صورة المغرب أمام العالم، لا أمام صناديق الاقتراع.
إنّ الحكم الذاتي ليس مولودًا سياسيًا مؤجلًا كما صوّره بوعشرين،
بل هو ثمرة مسار بدأ منذ المسيرة الخضراء وتواصل عبر عقودٍ من العمل الدبلوماسي والحقوقي والتنموي.
الفرق بين المسيرتين — مسيرة 1975 ومسيرة الحكم الذاتي —
أن الأولى حملت العلم إلى الأرض، والثانية تحمل الدستور إلى المؤسسات.
والاثنتان تنبعان من منطقٍ واحد: الوحدة فوق كل اعتبار.
في النهاية، لا يمكن إنكار أن بوعشرين كتب نصًا أنيقًا ومفعمًا بالصور،
لكن الأناقة وحدها لا تكفي حين يتعلق الأمر بالمفاهيم الدستورية والسياسية.
لقد قدّم قراءة شاعرية للحكم الذاتي، لكنها تفتقر إلى الدقة، وتختلط فيها النية الطيبة بالمغالطة الخطيرة.
فالخطأ ليس في الإيمان بالمبادرة، بل في تأويلها بما يفرغها من معناها السيادي.
فـ “فاتورة الحكم الذاتي” التي تحدث عنها بوعشرين قد تكون فعلاً ثقيلة من حيث الالتزامات السياسية،
لكن فاتورة الفهم الخاطئ أخطر بكثير، لأنها تفتح الباب أمام تصوّرات غامضة لمشروعٍ وطنيٍّ واضح وضوح الشمس.
الحكم الذاتي في الصحراء المغربية ليس مجرّد مبادرة لحل نزاع،
بل هو إعلان نضجٍ سياسيٍّ لدولةٍ استطاعت أن تحوّل ملفًّا معقّدًا إلى نموذجٍ في الواقعية والسيادة.
ومن أراد أن يكتب عن هذا المشروع، فعليه أن يقرأ خريطة الدستور قبل أن يكتب بخيال البلاغة.
لأن الوطن ليس تمرينًا لغويًا، بل عقدًا سياسيًا بين التاريخ والسيادة…
ومن يجهل الفارق بينهما، سيدفع أغلى فاتورة: فاتورة الفهم الخاطئ.
								