لم يعد النقاش حول قانون المسطرة الجنائية مجرّد تفصيل تقني يهم رجال القانون، بل تحوّل إلى مرآة تكشف عن طبيعة العلاقة بين السلطة والمجتمع، بين النص الدستوري والشعب الذي يُفترض أن يكون في صلبه.
فالمحامي والفاعل الحقوقي محمد الغلوسي قدّم قراءة صادمة للتعديلات الأخيرة، وضع من خلالها المغاربة أمام معادلة قاسية: قانون يحمي فئة من المسؤولين والمنتخبين، وقانون آخر يطبق بكل صرامة على بقية المواطنين.
المواد 265 إلى 268 من المسطرة الجنائية شكّلت دائماً استثناءً مثيراً، إذ منحت مسطرة خاصة للتحقيق مع شخصيات بعينها: من مستشاري الملك وأعضاء الحكومة إلى القضاة والولاة والعمال والضباط. امتياز قضائي كامل يضعهم في مصاف مغاير لعامة الناس، ويجعل العدالة نفسها خاضعة لشروط غير متاحة لبقية الشعب.
لكن التعديل الأخير، بإضافة المادة 3، فتح الباب واسعاً على مرحلة أخطر: توسيع هذه الحماية لتشمل فئة المنتخبين والمسؤولين الذين يوضع المال العام تحت سلطتهم.
بمعنى آخر، أولئك الذين يفترض أن يخضعوا لأعلى درجات الرقابة والمحاسبة، أصبحوا يتمتعون بمسطرة استثنائية تحصّنهم حتى وهم يعبثون بموارد الأمة.
الغلوسي لخّص الأمر في ثلاث خلاصات حاسمة:
المعينون والمنتخبون اليوم محميون بمسطرة استثنائية.
المواطن العادي يظل خاضعاً للمسطرة العادية بكل قسوتها.
ما جرى هو ضرب للدستور، وتقنين للتمييز، وتكريس للفساد عبر القانون.
بهذا المعنى، لم يعد الريع مجرّد شبكة اقتصادية أو سياسية، بل أصبح ريعاً تشريعياً، مؤسَّساً على نصوص رسمية منشورة في الجريدة الرسمية، بما يحوّله إلى واقع قانوني صلب.
وهنا تكمن المفارقة: الدستور ينص على المساواة، بينما القانون يُشرعن الامتياز.
إنها لحظة فارقة، تُظهر أن العدالة في المغرب أصبحت مزدوجة: عدالة استثنائية محروسة بالنصوص لأصحاب المناصب، وعدالة عادية مشدّدة على عامة الشعب.
وما بين العدالتين، يتسع الخرق على الراتق، ويتحوّل القانون من أداة للإنصاف إلى آلية لتكريس الفوارق والامتيازات.
الرسالة التي يوجهها الغلوسي واضحة: ما يجري ليس مجرد تعديل قانوني، بل انقلاب ناعم على روح الدستور، وتأسيس لوضع خطير عنوانه العريض: القانون في خدمة الامتياز، لا في خدمة المساواة.