خطاب عبد الإله بنكيران الأخير لم يكن مجرد صرخة غضب ضد الغطرسة الإسرائيلية، بل كان رسالة مزدوجة موجهة إلى الخارج بقدر ما هي موجهة إلى الداخل.
فمن جهة، وجّه الأمين العام لحزب العدالة والتنمية إنذاراً صريحاً إلى ملوك ورؤساء وأمراء العرب، محذراً إياهم من أن الميثاق الذي يربطهم بشعوبهم بات على حافة الانفراط، وأن العروش نفسها لم تعد في مأمن. ومن جهة أخرى، بدا خطابه وكأنه بروفة انتخابية مسبقة، يسعى من خلالها إلى إعادة رسم موقع حزبه في معركة قادمة لا تقل شراسة عن أي مواجهة إقليمية.
بنكيران اختار اللحظة بعناية. الاعتداء الإسرائيلي على قطر شكّل منعطفاً دراماتيكياً، استثمره الرجل ليبني خطاباً يتجاوز حدود التضامن التقليدي مع فلسطين.
فبينما وصف الهجوم بأنه جريمة نكراء وخرق لأعراف إنسانية ضاربة في التاريخ، لم يتردد في ربط أمن الشعوب بشرعية العروش. هذا الربط المباشر أعطى لخطابه صدى أكبر من مجرد موقف سياسي أو حزبي، لكنه في الوقت نفسه فتح الباب أمام سؤال أعمق: هل كان بنكيران يتحدث بصفته ضميراً عربياً، أم بصفته زعيماً انتخابياً يبحث عن عودة إلى الواجهة؟
ازدواجية الخطاب بدت واضحة في أكثر من محطة. حين طالب الحكام العرب بقطع العلاقات مع إسرائيل، بدا وكأنه يخاطب وجدان الشارع المغربي الرافض للتطبيع.
وحين ذكّر بأن الميثاق بين الحكام والشعوب قابل للانفراط إذا غاب الشعور بالحماية، بدا وكأنه يبعث برسالة مبطنة إلى الناخبين: أنا ما زلت صوتكم الغاضب، الحارس على القيم. وهنا تكمن المفارقة: الرجل الذي بصم سنوات حكمه بقرارات موجعة اجتماعياً واقتصادياً، يعود اليوم في ثوب المدافع عن الكرامة والشرعية.
لكن المغاربة، بذاكرتهم السياسية الحادة، لا ينسون أن بنكيران حين كان في السلطة لم يتجرأ على هذه اللغة، وأن حكومته مررت سياسات أثقلت كاهل المواطن. لذلك، فخطابه الجديد يُقرأ بنظارتين: نظارة ترى فيه جرأة طال انتظارها، ونظارة ترى فيه انتهازية انتخابية بامتياز.
ما لا يمكن إنكاره هو أن بنكيران نجح مرة أخرى في إعادة اسمه إلى الواجهة، وفي جرّ النخبة السياسية والإعلامية إلى سجال حول موقعه وموقع حزبه. فهو يدرك أن الانتخابات على الأبواب، وأن استعادة المبادرة تحتاج إلى خطاب يتجاوز الحسابات التقنية إلى مخاطبة الوجدان الجمعي.
وبين إنذار الحكام واستمالة الناخبين، رسم الرجل معادلة جديدة: خطاب يلبس عباءة الأمة، لكنه لا ينسى صناديق الاقتراع.
وتبقى ازدواجية الخطاب البنكراني مرآة لواقع السياسة نفسها: خليط من المبدئية والانتهازية، من الأخلاق والانتخابات، من الشعوب والعروش. أما المغاربة، فقد تعودوا أن يقرأوا ما وراء الكلمات، وأن يميزوا بين الصوت الذي ينطق باسمهم والصدى الذي يبحث عنهم.