عاد عبد اللطيف ميراوي، الوزير السابق للتعليم العالي، إلى قاعات الدرس، لكن ليس في المغرب الذي كان يُفترض أن يخدمه، بل في فرنسا، بجامعة التكنولوجيا ببيلفور-مونبليار.
المشهد يثير أكثر من سؤال: كيف لرجل تولّى حقيبة وزارية في قطاع حساس مثل التعليم العالي أن يقرر، بعد سنوات قليلة، مغادرة البلاد لمواصلة مساره الأكاديمي بالخارج؟ أليس هذا إقراراً ضمنياً بعدم ثقته في المنظومة التي كان جزءاً من هندستها؟
خلال فترة تواجده على رأس الوزارة، كان ميراوي في قلب معركة حقيقية مع طلبة كليات الطب. قراره تقليص سنوات الدراسة من سبع إلى ست، وتضييقه على إمكانية الهجرة بدعوى الحفاظ على الكفاءات الوطنية، فجّر غضباً غير مسبوق انتهى بسنة بيضاء أهدرت أعمار آلاف الطلبة.
في تلك اللحظة، بدا الوزير كمن يريد أن يفرض رؤيته بالقوة، ولو على حساب مستقبل جيل كامل. لكن المفارقة أن الرجل نفسه لم يتردد في ممارسة “حق الهجرة” الذي كان ينكره على الطلبة، حين غادر المغرب صوب فرنسا ليضمن استمرارية مساره الشخصي.
هذا التناقض الفجّ يختزل أزمة أعمق في السياسة المغربية: وزراء يشرّعون قرارات تمس حياة الناس، ثم ينسحبون بأريحية نحو الخارج، وكأن الوطن مجرد محطة عابرة في مساراتهم الفردية.
الخطابات الرسمية تمتلئ بالكلام عن “الوطنية” و”خدمة البلاد”، لكن الممارسة تكشف أن أول من يشك في المستقبل داخل المغرب هم بعض من تولّوا تسيير شؤونه.
إنها حالة نموذجية لانفصام الخطاب السياسي: وزير يتحدث عن “تثمين الكفاءات” بينما يهاجر شخصياً ليخدم مؤسسة أجنبية.
وزير يطالب الطلبة بالصبر على أعطاب الجامعة المغربية بينما يختار لنفسه جامعة فرنسية متقدمة. وزير يفرض على الطلبة سنة بيضاء ثم ينجو من الحساب ليعيد ترتيب أوراقه الشخصية بعيداً عن الأنظار.
والمحصلة دائماً واحدة: المواطن هو من يدفع الثمن. الطلبة الأطباء فقدوا عاماً كاملاً من تكوينهم، المنظومة الصحية ما زالت تعاني خصاصاً مزمناً في الموارد البشرية، أما الوزير السابق فقد وجد لنفسه مقعداً جديداً في الخارج. أي منطق هذا الذي يجعل البلد يخسر مرتين: كفاءاته الشابة وسياسييه السابقين في آن واحد؟
قد يقول قائل إن لكل شخص الحق في اختيار مستقبله صحيح لكن حين يتعلق الأمر بشخص كان في موقع القرار، فإن خياره الشخصي يتحول إلى رسالة سياسية: إذا كان الوزير نفسه لا يرى في المغرب فضاءً كافياً ليستمر أكاديمياً، فما الذي يُقنع الشباب بالبقاء؟ وإذا كان السياسيون يهربون إلى الخارج بمجرد إعفائهم، فكيف يُلام المواطن حين يفقد الثقة في خطاب الإصلاح والوعود الكبيرة؟
قصة ميراوي ليست مجرد عودة إلى مدرج جامعي فرنسي، بل مرآة لواقع أعمق: واقع سياسيين يتحدثون بلغة الوطنية ويمارسون بلغة المصلحة.
واقع مسؤولين يفرضون قراراتهم على الشعب ثم يغادرون قبل أن تظهر نتائجها. إنها مأساة بلد تُدار فيه السياسات كما لو كانت تجارب عابرة، بينما المواطن وحده من يبقى حبيس الأزمات المتكررة.