أمس، لم تكن المدن المغربية مجرد فضاءات مألوفة. الرباط، الدار البيضاء، مراكش، طنجة… تحولت جميعها إلى مرايا عاكسة لغضب شعبي متراكم.
خرج الشباب ليطالبوا بما يُفترض أنه بديهي: تعليم يفتح أبواب المستقبل لا يسدّها، منظومة صحية تحمي الجسد لا تهدر الكرامة، فرص عمل توقف نزيف الهجرة، ووطن يصغي إلى أبنائه بدل أن يغلق أبوابه في وجوههم.
المشهد الأكثر صدمة لم يكن في الهتافات ولا في الشعارات، بل في الغياب السياسي الشامل.
لم يجرؤ أي حزب على التقدّم إلى الأمام، لم يخرج أي وزير بخطاب طارئ، لم تُسمع كلمة صادقة من فاعل سياسي واحد.
كانت الساحة السياسية بأكملها في حالة شلل، وكأنها شبح يختبئ وراء مؤسسات إدارية وأجهزة تقنية، فيما الشارع وحده يكتب النص.
هذا الفراغ ليس عارضاً. إنه حصيلة سياسة طويلة صاغها العرّاب من وراء الستار. سياسة تعطي الأولوية للبريق على الجوهر، للواجهة على العمق: ملاعب دولية تُشيّد في زمن قياسي بمليارات الدراهم، بينما مدارس قروية تنهار فوق رؤوس تلاميذها.
صناديق خصوصية تتحرك فيها الأموال بعيداً عن أي رقابة، بينما البرلمان يكتفي بالتصفيق. شبكة مصالح تربط السلطة بالثروة، وتحوّل السياسة إلى سوق مغلق للصفقات.
وعندما انفجر الشارع، لم يجد أمامه سوى حضور أمني صلب، وغياب سياسي مطبق. لكن المفارقة أن اللحظة التالية تشهد دائماً محاولة الأحزاب ركوب الموجة.
بيانات متأخرة، تصريحات انتهازية، ومزايدات انتخابية تُطلّ برأسها بعد أن يهدأ الغبار. أحزاب لا تحضر في لحظة الخطر، لكنها تُتقن اقتناص الصور والرمزية حين تتراجع حرارة الشارع.
إنها ازدواجية تكشف موت السياسة الحقيقية، وقيام بديل هجين: سياسة البيانات لا سياسة المواقف.
لقد صنع العرّاب طبقة سياسية تجيد لعبة الصفقات أكثر مما تجيد فن الخطاب. وزراء يتعاملون مع الدولة كمنصة مشاريع، لا كعقد اجتماعي. برلمان يُفرغ النقاش العمومي من محتواه، بينما القرارات الكبرى تُكتب في أماكن لا تصلها أعين الناس.
وهكذا، حين يشتعل الشارع، لا يظهر أحد، لأن الكلام لم يعد ملكهم أصلاً.
احتجاجات الأمس كانت إعلاناً صارخاً أن السياسة الرسمية فقدت شرعيتها الخطابية.
الشارع استعاد صفة الناطق باسم الوطن، بينما السياسيون اختاروا الغياب أو ركوب الموجة بعد فوات الأوان. هذا الانفصال بين المجتمع ومؤسساته المنتخبة أخطر من أي مظاهرة: لأنه يكشف عن أزمة ثقة بنيوية، حيث الناس يتحدثون بلغة الألم، بينما الطبقة السياسية تتقن فقط لغة الحسابات.
اليوم، لم يعد السؤال: لماذا صمت السياسيون؟ بل: هل ما زالوا يملكون الحق في الكلام أصلاً؟ وإذا كانت السياسة قد استسلمت لمنطق العرّاب، فما جدوى أحزاب لا تجرؤ على الحضور في ساعة الحقيقة، وتكتفي بالظهور عند توزيع الغنائم الرمزية؟
