لم يكن تصريح الميلودي المخارق، الأمين العام للاتحاد المغربي للشغل، بشأن الاحتجاجات الشبابية في المغرب، مجرد موقف عابر لنقابي تقليدي، بل هو مرآة تعكس مأزقاً أكبر: دولة تواجه غضب جيل جديد بوسائل قديمة، ونقابات اختارت الصمت طيلة سنوات لتستيقظ اليوم على صوت الشارع.
المخارق، في ظهوره الإعلامي، أكد أن مطالب جيل Z مشروعة وعادلة، لكنه وصف أفق الحراك بـ”الغامض”.
وهو توصيف صحيح في جزء منه، لكنه يفضح أيضاً فراغ الساحة السياسية والاجتماعية من مؤسسات وسيطة قادرة على تأطير الغضب.
فالنقابات، وعلى رأسها الاتحاد المغربي للشغل، لم تعد تمثل القاعدة العمالية والشعبية كما كان يُفترض بها، بل تحولت إلى جهاز وساطة ضعيف الصوت، محدود التأثير، فاقد للجرأة التي ميزتها في محطات تاريخية مفصلية.
تحميل الحكومة وحدها مسؤولية ما يجري هو نصف الحقيقة فقط. صحيح أن السلطة التنفيذية اعتمدت سياسات بعيدة عن هموم الشباب، من تسقيف سن التوظيف إلى خصخصة الخدمات الحيوية، لكن النقابات كانت دائماً جزءاً من المشهد، واكتفت في أحسن الأحوال ببلاغات احتجاجية لم تُترجم إلى معارك اجتماعية حقيقية.
لو كانت الحركة النقابية قوية، كما كانت في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، لما تُرك الشباب وحيدين أمام انسداد الأفق السياسي والاجتماعي.
المخارق تحدث عن “ضرورة مراجعة قرار تسقيف التوظيف”، لكنه لم يجب عن سؤال أبسط: لماذا لم يخض الاتحاد المغربي للشغل معركة حقيقية ضد هذا القرار عند صدوره؟ لماذا سُمح للحكومات المتعاقبة بتمرير سياسات أفقرت المدرسة العمومية وأضعفت المستشفى العمومي دون أن تتحرك النقابات إلا بخطابات متأخرة؟
وحين يتحدث الأمين العام للنقابة الأكبر في البلاد عن بطالة تتجاوز 40%، وعن شباب من حملة الشهادات العليا في الشارع، فإن هذا ليس مجرد توصيف اقتصادي؛ إنه إعلان عن فشل مزدوج: فشل الدولة في خلق مناصب الشغل، وفشل النقابات في تحويل هذه الأرقام إلى قوة ضغط تغيّر السياسات.
جيل Z لا يقرأ تقارير المندوبية السامية للتخطيط ولا نشرات بنك المغرب بقدر ما يعيش واقعه اليومي: انسداد الأفق، تهميش، وإحساس عميق بانقطاع الجسور مع مؤسسات كان يُفترض أن تدافع عنه.
في كندا مثلاً، حين قررت الحكومات المتعاقبة تمرير إصلاحات تقشفية في قطاع الصحة أو التعليم، واجهتها النقابات بإضرابات وطنية أوقفت الحياة العامة وأجبرت الدولة على التفاوض.
في فرنسا، حين رُفع سن التقاعد، لم تتردد النقابات في تعبئة ملايين المتظاهرين عبر شوارع باريس ومدن أخرى، لتؤكد أنها ليست مجرد “شريك اجتماعي” صامت، بل قوة ضغط سياسية.
أما في المغرب، فقد تحولت النقابات إلى مجرد ظلال باهتة لماضيها، تركت الشباب يواجهون مصيرهم منفردين، واكتفت بتوزيع خطب خشبية تحاول اللحاق بالركب بعدما سبقها الشارع. الفارق واضح: هناك نقابات تخلق التوازن وتحمي العقد الاجتماعي، وهنا نقابات تكتفي بلعب دور المتفرج.
الاحتجاجات ليست مجرد موجة غضب اجتماعي؛ إنها لحظة سقوط أقنعة.
الشباب يصرخ في الشارع، الحكومة تختبئ خلف لغة الأرقام، والنقابات توزّع خطباً خشبية بلا أثر.
ما يجري في المغرب اليوم يكشف أن جيل Z يكتب فصلاً جديداً من علاقة الدولة بالمجتمع: علاقة بلا وسطاء، بلا ثقة، وبلا أفق واضح.
ليس عبثاً أن تتصدر أخبار الاحتجاجات المغربية عناوين كبريات الصحف الدولية.
فـلوموند الفرنسية تحدثت عن “جيل يطالب بفرصة للحياة”، بينما ربطت رويترز بين ما يجري في شوارع المغرب وأزمة الثقة في النخب السياسية بمنطقة شمال إفريقيا، وذهبت الغارديان البريطانية إلى وصفه بأنه “غضب من جيل جديد يرفض أن يرث صمت آبائه”.
المثير أن هذه الصحف لم تركز فقط على مسؤولية الحكومة، بل أبرزت أيضاً ضعف النقابات والأحزاب كوسائط اجتماعية، واعتبرت أن المغرب يعيش اليوم مفارقة لافتة: دولة تقدم نفسها كـ”قوة صاعدة” على المستوى الدولي، لكنها تواجه أزمة تمثيلية داخلية عميقة.
جيل Z المغربي، في نظر الإعلام العالمي، ليس مجرد حركة احتجاجية، بل هو إنذار استراتيجي: إذا لم تُفتح قنوات حوار فعلية، وإذا لم تُستعد الثقة في النقابات والأحزاب، فإن البلاد قد تدخل مرحلة جديدة من اللايقين السياسي والاجتماعي، يصعب التكهن بنتائجها.
