When Heritage Becomes a Ministerial Project and Memory Turns into Official Marketing
التراث المغربي لم يعد مجرّد ذاكرة حيّة تتنقّل من يدٍ إلى يد، بل صار “مشروعًا وزاريًا” مؤطَّرًا بخططٍ وميزانيات، تُدار تفاصيله كما تُدار الصفقات العمومية.
الحرفة التي كانت يومًا حكاية عشقٍ بين الإنسان والمكان، صارت بندًا في جدولٍ حكومي يُقاس بالأرقام لا بالعِرق، وبالمنصّات الرقمية لا بدفء الورش القديمة.
في قبة البرلمان، قدّم لحسن السعدي، كاتب الدولة المكلّف بالصناعة التقليدية والاقتصاد الاجتماعي والتضامني، عرضًا تفصيليًا بالأرقام والبرامج والخطط المستقبلية.
قال السعدي إن حماية التراث الحرفي أولوية وطنية، وإن الرقمنة والتكوين والتسويق هي مفاتيح الاستدامة.
لكن خلف هذا الخطاب المنمّق، يظلّ سؤال بسيط يفرض نفسه: هل يمكن حماية الذاكرة بلغة الإحصاء؟
تحدّث السعدي عن توصيف 32 حرفة مهددة بالاندثار، وتكوين 48 ألف شاب بنسبة إدماج تفوق 85 في المئة، وإطلاق عقدٍ جديد لتكوين 30 ألف متدرّب سنويًا بميزانية تناهز 249 مليون درهم.
إنها أرقام طموحة تعكس رؤية إدارية منظّمة، لكنها تكشف أيضًا عن تحوّل الحرفة من فعلٍ إنساني إلى “مشروع تقني”.
فكلما ازدادت الخطط الوزارية، اتّسعت الهوّة بين الورق والواقع، بين المكاتب المكيفة وورش الصانعين في الأزقة القديمة.
يتحدّث السعدي عن الرقمنة كمنقذٍ للتراث، لكن التراث لا يُختزل في التطبيقات.
فالقفطان ليس منتوجًا عابرًا، والزليج ليس ماركوتينگ، والحرفة ليست بياناتٍ تُملأ على منصة.
الرقمنة تحفظ الشكل، لكنها قد تُفقد الجوهر: حرارة اليد التي تصنع، والنَفَس الذي يمنح الحجر حياة.
الوزارة، تحت إشراف السعدي، أطلقت علاماتٍ جماعية مثل “قفطان مغربي” و“زليج تطوان”، وسجّلت كلماتٍ بثلاث لغات لحماية “الزليج المغربي”، إلى جانب شراكاتٍ مع منظمة اليونسكو لتصنيف “الكنوز الحرفية المغربية”.
خطوات مهمة على مستوى الترويج، لكنها لا تكفي ما لم تمتد إلى عمق الورش حيث يعيش الحرفيون واقعًا هشًّا، بلا دعمٍ اجتماعي أو حمايةٍ اقتصادية حقيقية.
في خطابه، تحدّث السعدي كثيرًا عن “الاستدامة”، لكن أي استدامة نقصد؟
استدامة العلامة أم استدامة الإنسان؟
فالتراث لا يعيش بالمراسيم، بل بالناس الذين يحملونه في أيديهم وأصواتهم وحكاياتهم.
بين لغة الإدارة وذاكرة الحرفة، يتسلّل نوعٌ جديد من الاغتراب الثقافي: الدولة تحتفي بالحرفي حين يصبح واجهةً للهوية، لكنها تنساه حين يغلق ورشته في زقاقٍ منسيّ.
تُسجَّل الأصالة في دفاتر الملكية الفكرية، وتُنسى اليد التي صنعتها بدمها وعرقها.
القفطان والزليج لا يحتاجان إلى حماية قانونية فقط، بل إلى سياسات تحمي الإنسان قبل المنتوج.
فحين تتحوّل الذاكرة إلى سياسة عمومية تُدار بمنطق السوق، نفقد شيئًا من روح الوطن نفسه.
إنّ أجمل ما في الحرفة ليس منتوجها، بل قصتها.
وحين تصبح القصة مُسوّقة بلغة الإحصاءات والعروض الوزارية، تتحوّل من وجدانٍ إلى واجهةٍ… ومن تراثٍ إلى ماركوتينگ رسمي.
