لا شيء أبلغ من صوتٍ يخرج من غرفة العمليات. جراحٌ مغربيّ كسر جدار الصمت، وساق روايةً متماسكة عن انهيارٍ مُمنهج يضرب المستشفى العمومي من الداخل: إنهاكٌ للبشر، استنزافٌ للمعدات، وتكتيكاتٌ قانونية وتنظيمية تُمهّد الطريق لتحويل حق العلاج إلى خدمةٍ تُشترى.
ليست هذه مجرد صرخة غضب؛ إنها بلاغ إنذار يستحق التمحيص القضائي والبرلماني والإعلامي لا القمع ولا التوظيف السياسي.
تبدأ الحكاية، كما يرويها الطبيب، من قاعدةٍ أخلاقية مقلوبة: زواج المال والسلطة.
حين يجلس المُنظِّم والمُستفيد إلى الطاولة نفسها، تصبح السياسات العامة أقرب إلى صفقةٍ منها إلى تعاقدٍ اجتماعي.
من هنا تتوالى الحلقات: أعباءُ حراسةٍ مرهقة بتعويضاتٍ تُهين الخبرة، تأخُّرٌ في التوظيف وتعويض المغادرين، نقصٌ مُزمن في التجهيزات الأساسية، وإشاراتٌ تنظيمية تجعل المرفق العمومي ميداناً عسيراً، ثم تُقدَّم “النجاة” عبر بوابة القطاع الخاص.
إن صحّت هذه السردية، فالنتيجة واحدة: دفعٌ صامتٌ لملايين الفقراء نحو بابٍ لا يستطيعون طرقه.
تاريخياً، لعب القطاع العمومي في المغرب دورَ “المعادِل الأخلاقي” في الصحة: بابٌ مفتوحٌ للفقير قبل الغني، ينقذ الحياة بغضّ النظر عن القدرة على الدفع.
ما يتبدّل اليوم، وفق الشهادة، ليس مجرد هندسةٍ مالية، بل فلسفةُ الحق نفسه: من مواطنةٍ تُلزم الدولة بضمان الحد الأدنى من العلاج، إلى استهلاكٍ يضع الألم في سوق العرض والطلب.
هنا تتصدّع الثقة العامة، وهنا ينبغي أن يُقرَع جرس الخطر.
للقارئ الدولي، لعل الإغراء سهلٌ في تعليقٍ سريع على بلدٍ نامٍ يمرّ بأزمة موارد.
لكن القضية أعقد من حسابات العجز والفائض يمكن للنظم الصحية، حتى في اقتصاداتٍ متواضعة، أن تحقّق معجزاتٍ صغيرة حين تتوفّر ثلاث ركائز: تضاربُ مصالحٍ مضبوط بقانونٍ نافذ لا يعرف الاستثناءات، بياناتٌ علنية تُحاسِب ولا تُجمِّل، وخريطةُ موارد بشرية تُغلق “ثقوب السفينة” قبل بناء سفنٍ جديدة. ما عدا ذلك مجرّد بلاغات.
لا يتعلّق الأمر بتجريمِ القطاع الخاص أو تجريدِ المستثمر من دوره.
الطبّ الحديث يتطلّب استثماراً متعدد الأذرع. المشكلة تبدأ حين تتحوّل الدولة من ضابطٍ للميزان إلى طرفٍ راجح فيه.
في تلك اللحظة، يصبح الطبيب العموميّ عاملاً مُنهكاً، والمريض رقماً في لائحة انتظار، والموازنة خطاباً يطغى على غرفة إسعاف فارغة من الخيط والمخدِّر والدواء.
الطبيب الذي تكلّم لا يملك سلطةً تشريعية ولا قبضته على الخزينة؛ يملك شيئاً أثمن: معرفةً ميدانيةً لا تُشترى.
شهادته ليست نصّاً مقدّساً، لكنها ليست شائعةً أيضاً.
التعامل الرشيد معها يمرّ عبر مسطرةٍ واضحة:
فتحُ تدقيقٍ مستقلّ، سريع وعلني، في سلاسل التمويل الصحي: من الدرهم المُحصَّل إلى السرّير الذي يصل إليه.
نشرُ مؤشراتٍ شهريةٍ مُبسَّطة يفهمها المواطن: عدد الأطباء والممرّضين لكل عشرة آلاف نسمة، زمن الانتظار في المستعجلات والعمليات، نسبة توفّر الأدوية الأساسية، ومعدّل اشتغال غرف العمليات حسب الجهة.
تثبيتُ “خطّ أحمر” ضدّ تضارب المصالح: من يضع القاعدة لا يستفيد من أثرها؛ ومن يملك القرار لا يملك السوق.
عقدٌ مهنيّ جديد مع أطر الصحة: أجرٌ كريم، مراجعةٌ عادلة للحراسة، مساراتُ ترقّي جذّابة خارج محور المركز، وتحفيزٌ ذكيّ للاستقرار في المناطق الطرفية.
سياسةُ سدّ الثغرات الصغيرة قبل المشاريع الضخمة: ممرّضٌ مساعدٌ واحد، جهازُ تخديرٍ واحد، غرفةُ تعقيمٍ مُحكمة تفاصيل تُعيد الحياة لجناحٍ كامل بأقل كلفة.
إصلاحُ أي تشريعاتٍ تُحوِّل الموظف العمومي إلى “مستخدمٍ” قابلٍ للسحب خارج ضمانات الدستور، مع صيانة الحقّ النقابيّ الحقيقيّ لا الشكليّ.
قد يقول قائل: “الأزمة عالمية، والموارد محدودة.” هذا صحيح. لكن ندرة الموارد ليست رخصةً لخصخصة الألم.
في الصحة بالذات، يسبق السؤالُ الأخلاقيّ السؤالَ المالي: من يختار أن يولد فقيراً لا يختار أن يمرض ومن يضع السياسات لا يملك أن يبيع الحقّ في الشفاء بالتقسيط.
المطلوب اليوم ليس بياناً مطمئناً، بل شجاعةُ كشفٍ ومحاسبة إن كانت رواية الطبيب مبالغاً فيها فلتُدحض بالوقائع والوثائق، لا بالبلاغات. وإن كانت دقيقة، فكل يومِ تأخيرٍ يضيف اسماً جديداً إلى لائحة الانتظار وأحياناً إلى لائحة الوداع.
المغرب، مثل غيره، يستحق نقاشاً صحياً لا يختبئ وراء الأرقام. يستحق دولةً تُنصت للجرّاح حين يدقّ ناقوس الخطر، لا حين يُصادِف خبراً عارضاً في نشرة المساء.
والقاعدة بسيطة بقدر ما هي صارمة: كرامة المريض ليست بنداً تفاوضياً، وكرامة الطبيب ليست ترفاً مهنياً بينهما تقوم الدولة أو تسقط.
